آخر تحديث :السبت-18 أكتوبر 2025-12:07ص

مقبرة المواهب

الأحد - 12 يناير 2025 - الساعة 11:45 ص
حسين سالم العولقي

بقلم: حسين سالم العولقي
- ارشيف الكاتب


في اليمن لاتموت الاحلام بمقصلة الظروف فقط بل بيد العادات والتقاليد ايضاً ، وماذا سيقول الناس ؟ ، عندما عاد والدي من مصر ، حاملاً حقيبة دبلوماسية، مرتدياً بدلة أنيقة، وحول عنقه ربطة بالوان زاهية و لامعة ظن أنه أخيراً ينتمي لعالم “النخبة”، وأن تلك الليلة ستكون بداية عهد جديد. شعرت بالسعادة وانا اشاهد التحديث الجديد والمطور لوالدي بينما الأهالي يرون عكس ذلك يحدقون كثيراً للرجل القادم من "هوليود " ويعتبرونة تغييراً خطيراً للهوية الوطنية ولكن خلف هذا المشهد الأنيق، كانت أمي تقف خلف الكواليس، متأبطة شراً، وعيناها ترقبانه وكأنها تخطط لحسم هذا “التحول الحضاري” في أسرع وقت ممكن ، لم تمر تلك الربطة دون تعليق، فقد كانت بالنسبة لوالدتي أشبه بتهديد اجتماعي محتمل ! و لم تكتف بذلك، ففي صباح اليوم التالي، أخذت " الكرفتة " تلك، ولم تضعها في خزانة والدي كالعادة بل ربطت بها باب حضيرة المواشي ، لتصبح شاهداً صامتاً على قتل حلم جديد !

هذا المشهد البسيط يختصر الكثير من واقعنا في اليمن، حيث لا تقف الأحلام والمواهب فقط أمام تحديات الحياة القاسية، بل أيضاً في مواجهة معركة لا تنتهي مع الأعراف الاجتماعية والتقاليد التي ترى في أي تغيير “خطراً” على الهوية. هنا، كل محاولة للظهور بمظهر مختلف أو التفكير خارج الصندوق تُعتبر جريمة لا تُغتفر

كل حلم مبتكر أو فكرة جريئة تُقابل بجدار سميك من الرفض الاجتماعي أو الظروف القاسية. الفنان يصبح مزارعاً، العالم ينشغل بالبحث عن الوقود، والشاعر يجد نفسه منشغلاً بحساب ديون البقالة

في مجتمع يُقدس التقاليد على حساب الابتكار، كل ما يبدو جديداً يُعتبر تهديداً للنظام السائد. فالطالب الذي يعود من الخارج بأفكار متقدمة يُتهم بالابتعاد عن “أصوله”، والشاب الذي يُظهر موهبة موسيقية يُنصح بالتركيز على شيء “ينفعه في الحياة”. أما المرأة التي تسعى لاكمال الدراسة الجامعية، فهي تواجه أسئلة مثل: “وماذا سيقول الناس؟

ما يجعل قتل المواهب في اليمن فريداً هو أن المأساة كثيراً ما تكون مغلفة بروح ساخرة. والدك الذي كان يحلم بأن يصبح كاتباً شهيراً، انتهى به المطاف يخط عبارات تسعيرية على أكياس الأرز في بقالته الصغيرة. أو قريبك الذي تعلم فن الطبخ في الخارج، وعاد ليجد أن الطبق الوحيد الذي يُتوقع منه أن يتقنه هو “السلتة” و”الفتة”

عودة إلى ربطة عنق والدي، التي انتهت حياتها القصيرة وهي مربوطة بإحكام حول باب زريبة الغنم. كان ينظر إلى الربطة وكأنها تُذكره بأن طموحاته لم تكن أكثر من مزحة عابرة في نظر المجتمع. ربما لو كُتبت سيرة تلك الربطة، لكانت عنواناً رمزياً لمأساة المواهب في اليمن

تلك الأرض العريقة التي أنجبت الحضارات والشعراء والفنانين، لا تزال تتفنن في وضع العوائق أمام مواهب أبنائها. لكن رغم كل شيء، هناك ما يجعل اليمنيين استثنائيين: قدرتهم على السخرية من واقعهم المرير، وتحويل حتى أعمق الجروح إلى حكايات مضحكة !

وربما يومًا ما، سيعود ذلك الأب ليجد أن ربطة عنقه قد أصبحت رمزاً لثورة صغيرة ضد العادات والتقاليد التي تقتل الطموح، أو أن ابنه قرر كتابة مقال ساخر عنها… مثلي تماماً ..