في قريةٍ صغيرة، يتساوى فيها الفقر مع الطيبة، ويحكمها العرف قبل القانون، كان هناك رجل يُدعى السيد حمود.
لم يحمل من العلم شيئاً سوى ما ورثه من اسم أبيه، الذي كان يدعي أنه سيدا قبل موته.
ولم يدخل جامعة، ولا جلس بين كتب الشريعة، لكنه جلس طويلاً بين الناس، يراقب حاجاتهم، ويُتقن استغلال جهلهم.
ولم يكن مأذوناً رسمياً، لكنه كان يعقد القران، ويكتب العقود، ويُفتي كما يشاء، كأنه حاكم القرية غير المعلن.
ولم يفعل ذلك حباً في الخير، بل كان تاجراً يُخفي جشعه خلف عباءة بالية من التُقى.
ولم يكن يطلب المال صراحة، لكنّه لا يعمل مجاناً.
كان يقول بابتسامة باردة: "ما من مصلٍّ إلا وطالب مغفرة"، يوحي بها أن كل خدمة بثمن، حتى لو لم يكن مالاً.
وكان يقبل أجرته بأعلاف المواشي، واللبن، والبن، والعسل، والدجاج، والسمن، والبيض… أي شيء يُبقيه في مقام المانح، ويُشعر الآخرين بأنهم مدينون له.
أما عقود الزواج، فكانت مسرحية معتادة، يلعب فيها دور البطولة.
الوليمة لا تُقام إلا إن كانت "مطيبته" الكبيرة حاضرة — وقطعة لحم كبيرة، تطفو فوق المرق، وتُقدم له أولاً.
إن غابت أو صغُرت، غضب، وهدد بأن "البركة ما تنزل"، وربما ألغى العقد بحجج واهية.
يجب أن يكون طبقه الأشهى، وصحنه الأغزر، وعسله الأطيب.
وإن أحس بأن أحد الضيوف أُكرم أكثر منه، عبس وتوعّد.
الناس لم يحبوه، بل خافوه.
كانوا يتهامسون في الزوايا: "الزواج ما يكتمل إلا بالمطيبة، مش بالحلال."
ومضى الزمن على هذا الحال، حتى جاء ذلك اليوم.
كان العرس لابنة أحد فقراء القرية، لكن فرحتهم لم تكن عادية، فقد عاد من المدينة خال العروس، العم عِوَض، رجل حاد الذكاء، عاش في المدن، ولم يعتد الخضوع لعادات مهترئة.
جلس السيد في صدر المجلس، ينظر إلى القدور كلص ينتظر الغنيمة.
اقترب أحد الفتيان ليغرف المرق، فنادى السيد بصوته المعتاد: "وين مطيبتي؟!"
ساد صمتٌ لحظي، حتى قال العم عِوَض وهو يضحك: "يا سيدي حمود، البركة نازلة على اللحم المفروم اليوم.
لا مطيبة لك ولا لي… كلنا ضيوف!"
قطّب السيد حاجبيه، وقال ممتعضاً: "أنا مأذون… ما أكون زي غيري؟"
فرد العم عِوَض ببرود يشبه صفعة: "المأذون يوقع على العقد، مش على مطيبة المرق.
إن كانت لله، فكل وادعُ، وإن كانت للّحم، فلا عقد يُرضي ربّاً!"
وتعالى الضحك بين الحضور، ثم صفّق أحدهم، وقال والد العريس بصوتٍ عالٍ: "بارك الله فيك يا عم عوض.
من اليوم، ما في سيد ياكل أكثر من ضيف!"
بلع السيد غصّته، وأكمل العقد على مضض.
ومنذ ذلك اليوم، تغيّرت الطقوس.
لا مطيبة كبيرة، ولا عسل مميز، ولا سيد فوق الضيوف.
الكل سواسية، والبركة نزلت كما لم تنزل من قبل.
وهكذا، لم يسقط السيد حمود بصراخ الناس، بل بكلمة حق واحدة، صدحت بها شجاعة رجل.
فهم أهل القرية أن "الوالي العادل" لا يُميّز نفسه، بل يُكرم الناس، وأن من يبيع دينه مقابل "مطيبة مرق"، لا يستحق أن يمنحه الناس قدرا ومكانه.