يا أيها الإنسان ما هذا البغي الذي ينبض في أعماقك وما هذا الظلم الذي يسرى في شرايينك وما هذا العلو الذي تتوهمه فوق جثث الأبرياء وأنقاض الأرواح ألم تكن الحروب الكبرى التي اجتاحت الدنيا كفيلة بأن توقظ فيك شعلة التبصر ألم تكن تلك المشاهد الدامية التي غطت الأرض بدماء شبابها درسًا مريرًا يكبح جماح جنونك لقد قدمت الإنسانية ملايين الأرواح قربانًا لطموحات لا تعرف الشبع وعاهدت نفسها حينها ألا تعود إلى سالف غيها وألا تعيد الكرة مرة أخرى فإذا بك بعد أن جف الدم على التراب وعادت الطيور تبني أعشاشها فوق أنقاض الخراب تعود إلى بغيك المتأصل كأن لم يكن شيء فتغزو الضعيف وتستعبد الفقير وتمضي متباهيا بإنجازاتك الزائفة فوق أطلال الضحايا.
وما لبثت الأرض أن ارتجت تحت أقدام الطغاة مرة أخرى فاشتعلت نار حرب جديدة حطمت ما بقي من أحلام وسحقت ما تبقى من أمل واندفعت الطائرات فوق المدن والقرى تلقي الموت أطنانا والبحار امتلأت بسفن الحقد والموانئ ازدحمت بالدموع المنهمرة على الأحباب الذين غادروا بلا وداع وضج العالم بالصراخ حتى الصم ضجوا ولكنك مع ذلك كنت ممعنًا في مسارك كأنك لا تسمع ولا تبصر ولا تعي أن الغد قد يكون ألذع ألمًا من اليوم وأن الحرائق التي أوقدتها ستأكلك قبل أن تطفئ غيرك.
وحينما وضعت الحرب أوزارها وجثت المدن فوق ركامها وتسللت براعم الأمل خجولة من بين الرماد عادت عجلة البغي تدور بلا هوادة عاد القوي يمد يده الغليظة فوق رقاب الضعفاء وعاد الغني يبني قصوره من عرق المقهورين وعادت المصانع تدور لا لصنع أدوات البناء بل لصنع أدوات الفناء وصار العلم الذي كان من المفترض أن يكون سلمًا نحو رفعة الإنسان سيفًا مسلطًا فوق رقبته وصار العقل الذي وهب له ليبتكر الخير مهندسًا للموت وصارت البحار والسماء والأسواق كلها ساحات سباق نحو السلاح والدمار.
أيها الإنسان الذي زعمت أنك أحرزت التقدم أيها الذي ارتقيت بالآلة إلى مصاف الإعجاز لكنك لم ترتق بقلبك خطوة واحدة نحو نور الرحمة أيها الذي تسابقت دولك لصنع صواريخ أسرع من البرق وأسلحة أفتك من الأوبئة ولكنك لم تصنع بعد مرسىً تأوي إليه روحك المضطربة ولا حضنًا تأتمن فيه وجعك الداخلي أيها الذي أضاء مدنه بأبهى الأضواء وترك أرواح سكانها تتخبط في ظلمات القلق أيها الذي شيد أبراجا تناطح السحاب بينما تساقطت القيم في قاع المدينة صرعى تحت أقدام الجشع والطمع.
لقد صنعت حضارتك المادية آلة تبتسم في وجهك وتطعنك في ظهرك حضارة تطلق آلاف الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء لكنها لا تملك أن تطلق نجمة واحدة من الإيمان من قلبك حضارة خطفت بريق الطبيعة وزينت به معابدها البشرية لكنها سرقت من الإنسان أمانه الداخلي فسارت العقول عارية من الحكمة والقلوب خاوية من الرحمة والأيدي ملوثة بالدماء التي لا تجف على أطرافها.
إنها مأساة تتكرر في كل جيل مأساة تتجدد في كل عصر مأساة تثبت أن هذا الإنسان الذي يتبجح بثقافته لم يستطع أن يهذب طبيعته الوحشية التي ما زالت تئن تحت قشرة من التمدن الرقيق مأساة تجعل الملائكة تبكي والسماء تشتكي والأرض تضج من أقدام أبناءها الذين جعلوا منها مقبرة جماعية لأحلام البشر.
أيها الإنسان أية قسوة تحكمك وأية أنانية تجرك نحو مصيرك المشؤوم أية غفلة تجعلك لا ترى إلا غرورك البغيض أيها الذي تزعم أنك سيد العالم بينما تسير بخطى سريعة نحو هاويتك المحتومة بلا أن تلتفت إلى صوت العقل الضعيف الذي يصرخ في داخلك ولا إلى نداء القلب الذي يستغيث من طغيانك لقد نسيت أنك مخلوق من ضعف وأنك ماض إلى زوال مهما بلغت من قوة وجبروت نسيت أن حضارتك مهما علت فهي هشة كبيت العنكبوت تهتز أمام أول ريح عاتية.
فمتى تدرك أن القوة الحقيقية ليست في عدد صواريخك ولا في فتك قنابلك متى تفهم أن الإنسان الذي داخلك أهم من كل آلاتك وأعظم من كل ترساناتك متى تستوعب أن النور الذي يضيء العالم يبدأ بشمعة صغيرة توقدها في قلبك لا بصاروخ عابر للقارات متى تصحو من غفلتك وتعود إلى فطرتك النقية قبل أن يجرفك الطوفان الأخير الذي لن يترك وراءه إلا حفنة من التراب وقصة حزينة عن جنسٍ عرف العلم وجهل الحكمة.