في هذا العالم المتقلب الذي لا يعترف إلا بالأقوياء تصبح الشجاعة عملة نادرة لكنها مطلوبة في كل موقع قيادة، ومفتاحاً لا غنى عنه لمن أراد دخول عالم السياسة من أوسع أبوابه وليس المقصود هنا الشجاعة المجردة التي تنبع من داخل الإنسان فحسب، بل تلك التي تُعرض أمام الجماهير وتُمارس في المواقف الحرجة وتُوظف بحكمة متقنة لإقناع الآخر ولو كانت مموهة أحيانًا بقناعٍ من الصلابة المصطنعة.
القائد الحقيقي لا يُقاس فقط بما يشعر به في قلبه بل بما يظهره للناس في اللحظة الحاسمة فكم من قائد عاش مرعوباً من قرار، لكنه نهض واقفاً واتخذه! وكم من سياسي كان يتآكله القلق لكنه واجه خصومه بابتسامة الواثق ونبرة المنتصر! الشجاعة سواء كانت أصيلة أو مصطنعة تفرض نفسها أمام الشعوب، وتصنع الفرق بين من يكتب اسمه في دفاتر المجد، ومن ينزوي في زوايا النسيان.
السياسة لعبة قاسية لا ترحم المترددين ولا تمهل المتعثرين وهي لا تعني أن تكون مثالياً أو خالياً من العيوب، بل أن تعرف كيف تظهر بمظهر الرجل الذي لا يتراجع، ولا يتزعزع ولا يتلون عند كل مفترق. الناس في السياسة لا يفتشون في صدرك بل ينظرون إلى وقفتك، إلى عينك إلى قرارك إلى كلماتك إلى طريقتك في إدارة المواجهة، في الصعود إلى المنبر في الاحتكاك بالخصوم في الانتصار وفي الهزيمة على السواء ولذا فإن كثيراً من الزعماء العظام بدؤوا حياتهم بارتجاف داخلي، لكنهم تمرسوا على الشجاعة حتى أصبحوا هم أنفسهم لا يميزون بين الشجاعة التي تلبسوها والشجاعة التي أصبحت تسري في عروقهم.
من قال إن القائد يجب أن يكون خالياً من الخوف؟! على العكس أعظم القادة كانوا يتهيبون الخطوة الأولى، ويرتبكون في مواجهات البداية لكنهم لم يسمحوا للخوف أن يطل من أعينهم أو أن يسمع في نبراتهم أو أن ينعكس في قراراتهم تظاهروا بالشجاعة حتى صدّقهم العالم، ثم صدقوا أنفسهم، فصاروا شجعاناً بالفعل.
ليس في هذا خداع بل هو فن إدارة الذات والسيطرة على المظهر، وهو ما يجب أن يُدرّس في أول درس من دروس القيادة أن تعرف كيف تملك زمام وجهك ونبرة صوتك وانحناءة حاجبيك حين تغلي داخلك الأعاصير، تلك أولى علامات النضج القيادي وأن لا تترك لجسدك أن يفضحك ولا لنظراتك أن تتلعثم، ولا لقرارك أن يتشظى بين المخاوف تلك مهارة لا يتقنها إلا من فهم اللعبة جيداً، وفهم أن أول معركة يخوضها القائد هي مع نفسه.
السياسي الناجح أيها الدكتور ليس بالضرورة أن يكون أصدق الناس، لكنه لا بد أن يكون أقواهم مظهراً فالناس لا تسير خلفك لأنها تعرف ما بداخلك، بل لأنها ترى ما تعرضه عليهم تبيعهم الأمل حين يفقدونه، وتبيعهم الحسم حين يترددون، وتبيعهم الشجاعة حين يرتعدون نعم، أحياناً تكون تلك الشجاعة مجرد تمثيل ذكي لكنها التمثيلية التي تحرك الشعوب وتدفع العجلات وتصنع التغيير.
فلا تكن أسيراً لما تشعر به في الداخل تظاهر بالشجاعة حتى يصدقك الآخرون، وعندما يصدقونك سيؤمنون بك وعندما يؤمنون بك سيصنعون منك قائداً وحينها وربما دون أن تدري ستصبح أنت فعلاً ذلك الشجاع الذي تظاهرت به أول مرة إنها ألف باء القيادة، يا دكتور فلا تظن أنها مجرد صدفة أو فطرة تولد مع البع. إنها حرفة، تُصنع وتُصقل وتُؤدى حتى تصبح طبعاً بعد أن كانت تطبعاً، وشجاعةً حقيقية بعد أن كانت قناعاً.
هكذا تُصنع السياسة وهكذا يُصنع القادة.