في مرحلة حرجة كالتي نمر بها تبدو المصلحة العامة جريحًا ينزف بصمت بينما تنشغل النخب السياسية والإدارية وحتى المجتمعية في خصومات وهمية واستعراضات جوفاء تستهلك الوقت والجهد والموارد دون أن تضيف لبنة واحدة في جدار البناء الوطني نحن أمام لحظة صدق تاريخية تفرض علينا أن نتوقف ونعيد الحسابات ونراجع النوايا قبل الخطى.
لا يخلو أي مجتمع من الاختلاف ولا يمكن إلغاء التباينات في الآراء والميول لكن المأساة تبدأ عندما تتحول هذه الاختلافات إلى خصومات مفتعلة تقفز من دائرة الرأي إلى خانة التراشق الشخصي ومن حدود النقد إلى ساحة التشهير والمكايدة ومن واجب الرقابة إلى وهم الانتصارات الفردية.
كم خسرنا من فرص؟ وكم تأخرت التنمية؟ وكم تضررت صورة الدولة؟ بسبب نزاعات لم تكن أصلًا قائمة، أو بسبب تضخيم خلاف بسيط إلى درجة التناحر المقيت!
لقد سئم الناس هذا المشهد المتكرر مؤتمر صحفي هنا ومنشور مستفز هناك وموقف متعنت في دهاليز الاجتماعات واتهامات تنسف الجسور وتزرع الشك في كل خطوة أما الميدان؟ فهو يئن تحت وطأة الإهمال المشاريع متعثرة والطرق محفرة والمدارس بلا معلمين والمستشفيات بلا دواء والمواطن ينتظر من يلتفت إليه لا من يتصارع فوق أوجاعه.
ليست البطولة في تصدر المشهد وإشعال السجالات بل في الصمت الذي يعمل والتنازلات التي تُبنى عليها تفاهمات والخطى التي تُحسب بدقة كي لا تدهس مصالح الناس ليست القوة في الاستعراض الخطابي ولا في كثافة الحضور في الفضاء الافتراضي وإنما في الواقع المحسوس حين يرى المواطن أثر القرار في يومياته.
الوقت لا يرحم والفرص لا تنتظر والتاريخ لا يتوقف ليسجل التبريرات إن من يحب هذا الوطن حقًا عليه أن ينزل من برجه العاجي ويكف عن المماحكات ويبدأ فورًا بالعمل الصامت والمثمر فالمواطن لا تهمه تفاصيل الخلافات بل النتائج على الأرض ولا يهتم بما يُقال في المقاهي أو يُكتب في المجموعات بل بما يُنجز في الواقع.
حركتنا اليوم يجب أن تكون محسوبة على ميزان المصلحة العامة لا بدوافع الانتقام ولا بدوافع الحشد الجماهيري الزائف علينا أن نتعلم فن إدارة الخلاف وفن الصمت حين يتطلب الأمر وفن التراجع إذا لزم الأمر لأن الهدف ليس الانتصار الشخصي بل خدمة الناس ورفع معاناتهم.
أيها المسؤولون في كل المستويات يا أصحاب الأقلام والميكروفونات يا من تملكون القدرة على التأثير أو القرار تذكروا أن الوطن أكبر منكم جميعًا وأن الدولة تحتاج إلى من يرممها لا من يستهلكها دعونا نخرج من دائرة الخصومات الوهمية والاستعراضات المضرة ونُعد التفكير بمنطق مختلف منطق الوطن أولًا والمصلحة العامة دائمًا.
إن ما يحتاجه اليمن اليوم هو روح جماعية جديدة لا تتغذى على الخصومة بل على التعاون ولا تبحث عن الظهور بل عن الإنجاز دعونا نطوي صفحة العبث ونفتح كتاب العمل ونعيد للوطن هيبته وللناس كرامتهم وللمسؤولية معناها.
يكفي ما ضاع من الوقت وما استُنزف من الطاقات وما تهشم من الثقة آن أوان التحول الحقيقي من صراع النفوذ إلى شراكة البناء آن أوان أن نغادر المشهد القديم بكل ضجيجه الفارغ، ونتجه بخطى واثقة نحو يمنٍ جديد يستحق أن نختلف لأجله لا عليه.
محمد العنبري