في زاوية الفصل، جلس المعلم على كرسيه الخشبي المهترئ، ينظر إلى السبورة البيضاء التي بهت لونها من كثرة ما كُتب عليها ثم مُسح. لم تكن مجرد سبورة، بل مرآة لسنوات من العطاء بلا مقابل.
كان أحمد، معلّم اللغة العربية، يبدأ يومه قبل طلوع الشمس، يحمل حقيبته البالية وكأنها تحمل معه آمال وطن بأكمله. لا أحد يعلم كم من الليالي باتها جائعًا ليشتري قلماً لطالب، أو دفترًا لم يستطع ولي أمر توفيره.
مرت الأيام، وتوالت الوجوه، والقصص. في كل طالب حكاية، وفي كل حكاية درس. لكنه لم يدرّس فقط النحو والبلاغة، بل علّم الصبر، والكرامة، والنضال بصمت.
وفي الخارج، كان هناك من ينام على وسادة من حرير، ويتجاهل المعاناة التي تغلي خلف أبواب المدارس. تقاريرهم تتحدث عن "تحسين بيئة التعليم"، لكنهم لم يروا سقف الفصل الذي يسقط من الإهمال ، ولم يسمعوا ضحكة طفل تختنق من الجوع ، ولا أحلام المعلم المؤجلة إلى أجل غير مسمى.
ذات يوم، كتب أحمد تدوينة صغيرة على صفحة مهجورة: "نحن لا نطلب الثراء، فقط قليلًا من الإنصاف". لم يتوقع أن تُقرأ. لكنها وُجدت، وانتشرت. وسأل البعض: "أين كنّا؟ ولماذا سكتنا؟"
لم يتغير شيء، لكن صوته سيصل يوما ما. ونعلم حينها أن الكلمة، وإن وُلدت من وجع، قد توقظ ضميرًا غافلًا.