آخر تحديث :السبت-16 أغسطس 2025-06:58م

في حضرة الدولة الغائبة

الأربعاء - 23 يوليو 2025 - الساعة 09:36 م
د. محمد الحميدي

بقلم: د. محمد الحميدي
- ارشيف الكاتب


ليست الدولة مجرد بنية إدارية أو جهاز سلطوي يتغير بتغير الأفراد أو يتبدل بتبدل الموازين، هي فكرة كبرى في سياق التاريخ الإنساني، تجسد ارتقاء الوعي الجمعي من منطق الغلبة والفوضى إلى منطق التعاقد والعقل. إنها التعبير الأعلى عن إرادة أمة قررت أن تنتظم تحت سقف القانون، وأن تحكم علاقتها بذاتها ومحيطها على أسس من العدالة والمساواة والانضباط العام.


منذ أن نطق التاريخ باسمها، ظلت الدولة الحديثة مشروعًا مفتوحًا على المراجعة والتطوير، لكنها لم تفقد في جوهرها معناها الأصلي، أن تكون الحارس الأمين للقيم العليا، والضامن الوحيد لتوازن المصالح، والحاضنة التي تصهر التنوع في هوية وطنية جامعة، معبرة بأنها ليست ملكًا لطرف، ولا أداة في يد جماعة، لكنها الكيان الذي لا يكتمل العقد الاجتماعي إلا به، ولا تصان الكرامة الإنسانية.


الدولة الحقيقية لا تستمد مشروعيتها من سطوة القوة، ولا من شرعية الواقع المفروض، إنما من قدرتها على تمثيل الناس، وعلى ترجمة تطلعاتهم إلى مؤسسات حقيقية، وحقوق مصانة، وعقد جامع تتساوى فيه الرؤوس أمام القانون، وتتماهى فيه السلطة مع فكرة السيادة بوصفها التزامًا ومسؤولية لا امتيازًا ولا غنيمة.


وحين تتوارى هذه الفكرة، وتتحول الدولة إلى مشروع خاص لفئة بعينها، تبدأ رحلة السقوط من حيث لا يدري من يتصدر المشهد، فالدولة حين تختزل إلى أداة امتياز، وحين تدار بعقلية الاستحواذ لا بفلسفة البناء، تتحول مؤسساتها إلى مجرد أدوات، ويفرغ القانون من مضمونه، وتقايض السيادة في سوق الولاءات.


في مثل هذه الحالات، ينكمش الوطن من فضاء جامع إلى دائرة ضيقة يحكمها من يملك القوة، لا من يفهم المسؤولية، وتتحول مفهوم السيادة من عقد يلزم الجميع إلى غطاء هش ترتكب باسمه الانتهاكات، وتدار من خلاله حسابات النفوذ، ويتحول الإنسان من مواطن إلى تابع، ومن شريك في الدولة إلى موضوع في دفتر حسابات الحاكم.


ذلك أن الدولة لا تستقيم حين تحكم من فوق هرم مبتور عن قاعدته، ولا تبنى حين تختزل إلى مشاريع شخصية وأهواء عابرة. إنها تنهض حين تسكن وجدان مواطنيها، وحين تدار بعقل يدرك أن الوطن ليس سلعة، وأن الدولة ليست ميدانًا لتصفية الحسابات، لكنها كيان يضمن للجميع الأمان والحقوق والفرص المتساوية.


في تجارب السقوط السياسي التي وثقها التاريخ، لم تكن الكارثة في الغالب نتيجة عدوان خارجي مباغت، ولكن غالبًا ما تبدأ من الداخل، حين تنشأ التشققات الأولى في بنية الدولة بفعل عقل سلطوي يحولها إلى غنيمة، ويجرد السيادة من مضمونها لتغدو شعارًا أجوف، ويختزل السلطة إلى أداة تحاصر بها المصالح وتفرغ بها المؤسسات من وظائفها السيادية.


من تلك اللحظة، يبدأ التآكل الهادئ، حيث تتآكل القيم، وتفقد الدولة حضورها في وعي الناس، وتخفت شرعيتها في نفوس مواطنيها، حتى وإن بقيت ترفع رايتها وتنشد نشيدها الوطني. فالدولة التي تغيب عن وجدان شعبها لا يمكن أن تبقى حية في مؤسساتها، ولا أن تقاوم مصير الانحدار مهما استقوت بالشعارات أو تزينت بمظاهر السيادة الشكلية.


الدولة الحديثة يا معشر (الشرعية) لا تنهض على منطق التملك، ولا على توزيع الامتيازات وفق شبكة الولاءات، وإنما تتأسس على منظومة عقدية تقوم على المواطنة المتساوية، حيث تستمد الحقوق من الانتماء إلى الكيان الجامع، لا من القرب أو البعد من مراكز السلطة، وعندما تدار الدولة كأنها حصة شخصية، تتلاشى حدودها المؤسسية، ويبدأ الانفصال الصامت بين الناس ودولتهم، حتى يغدو الوطن جسدًا بلا روح، والدولة هيكلًا بلا شرعية معنوية.