اليمن… أولًا
قراءة في مفاهيم الدكتور محمد حيدرة مسدوس
اليمن... في مفاهيم الدكتور محمد حيدرة مسدوس
من المثير للدهشة — بل وربما للقلق — أن نسمع من شخصية سياسية مخضرمة مثل محمد حيدرة مسدوس دعوةً إلى "الالتفاف المطلق" حول شخص واحد، ومنحه تفويضًا بلا حدود، بحجة أن المرحلة لا تحتمل "المزاحمة والمناكفة". هذه اللغة، وإن كانت تبدو للبعض دعوة للوحدة، فإنها في الحقيقة تتعارض مع أبسط قواعد العمل السياسي السليم.
1. الشخصنة بدل المؤسسية
حين يحصر مسدوس مستقبل الجنوب العربي في شخص واحد — أيًّا كان اسمه — فإنه يسقط في فخ الشخصنة، وهو الفخ الذي دفع اليمن كله ثمنه مع أنظمة حكم سابقة قامت على "القائد المخلِّص" بدل المؤسسات الراسخة. الدول لا تُبنى على الأفراد، بل على قواعد واضحة ومؤسسات مستقلة. فالتجربة اليمنية (شمالًا وجنوبًا) مليئة بأمثلة الانهيار حين رُبط مصير الدولة بمصير رجل واحد.
2. مصادرة التعددية وحرية النقد
الدعوة إلى "عدم المزاحمة والمناكفة" و"الثقة المطلقة" هي في جوهرها دعوة لتجميد الحياة السياسية وإلغاء حق الاختلاف، حتى ولو مؤقتًا. لكن التاريخ السياسي يقول لنا: "التجميد المؤقت" يتحول غالبًا إلى استبداد دائم. التجارب القريبة في المنطقة توضح أن غياب النقد والمعارضة خلال مراحل التحرر أو الانتقال يفتح الباب للفساد والانحراف عن المسار.
3. خلط المفاهيم بين القيادة المؤقتة والديمقراطية
مسدوس يقول: "بعد الاستقلال ستكون المنافسة عبر صناديق الاقتراع". لكن هنا المشكلة: إذا نشأت الدولة في بيئة احتكار سياسي، دون تعددية حقيقية ودون ثقافة تداول سلطة، فلن تنجح الصناديق لاحقًا في إنتاج ديمقراطية حقيقية، لأن الثقافة السياسية نفسها ستكون قد تآكلت.
4. الاستقلال لا يعني الانفصال عن مبادئ السياسة السليمة
حتى لو كان الهدف "دولة جنوبية فدرالية مستقلة"، فإن الوصول إلى هذا الهدف لا يبرر تعليق الحريات أو إلغاء حق المشاركة والتقييم. على العكس، مشروع الاستقلال إذا لم يُبنَ على أسس تشاركية شفافة، فسيفقد شرعيته أمام الداخل والخارج.
5. إشكالية الثقة المطلقة
في السياسة، الثقة المطلقة تعني عمليًا غياب الرقابة والمساءلة. والأنظمة التي منحت قادتها ثقة بلا شروط، كانت نتائجها كارثية على الشعوب — من ليبيا القذافي إلى عراق صدام، وصولًا إلى تجارب عربية أخرى لم تنتهِ بخير. القائد الذي يستحق الدعم هو من يقبل النقد والمحاسبة، لا من يُحصَّن من النقد بحجة "الظروف الاستثنائية".
خاتمة
كلام محمد حيدرة مسدوس ليس مجرد رأي سياسي، بل هو دعوة خطيرة لتكريس نمط حكم فردي في مرحلة حساسة. نعم، الوحدة السياسية مهمة في أوقات الأزمات، لكن الوحدة الحقيقية تُبنى على برنامج وطني، ومؤسسات قوية، وتعددية محترمة، لا على شخصنة القيادة وإلغاء المنافسة. الجنوب العربي — إذا كان مقبلًا على مرحلة تقرير مصير — يحتاج إلى وعي سياسي يحصنه من تكرار مآسي الماضي، لا إلى إعادة إنتاجها.