اليمن.....أولاً..
في عام 1994م، كانت اليمن على موعد مع فرصة تاريخية لو استُغلت كما ينبغي لكانت قد غيّرت مستقبلها الاقتصادي والإستراتيجي. فقد عرضت شركة طيران جنوب أفريقيا – وهي أكبر ناقل جوي في القارة الأفريقية – شراكة واسعة مع اليمن، تقضي بجعل مطار عدن محطة ترانزيت رئيسية لرحلاتها نحو آسيا والهند.
لم يكن العرض مجرد مرور عابر، بل مشروعاً متكاملاً: إنشاء قاعدة صيانة كبرى، بناء فنادق ومطاعم لخدمة ركاب الترانزيت، تحديث برج المطار وتجهيزه بأحدث تقنيات الملاحة الجوية، تدريب الكوادر المحلية، وتوفير عائدات مالية ضخمة للدولة. بكلمات أوضح، كان المشروع كفيلاً بتحويل عدن إلى مركز إقليمي للطيران، ومحرّك أساسي لاقتصاد اليمن.
لكن القرار السياسي يومها، ممثلاً بالرئيس السابق علي عبدالله صالح، أصر على نقل المشروع إلى مطار صنعاء، متجاهلاً أن ذلك غير ممكن فنياً ولا عملياً. فرفضت الشركة، وأُجهضت الفرصة، وضاعت من اليمن إمكانية أن يكون لاعباً رئيسياً في شبكة النقل الجوي الدولية.
لم يكن السبب اقتصادياً أو فنياً، بل كان سياسياً بحتاً. فقد خشي النظام أن تنهض عدن وتعود إلى مكانتها التاريخية، فتصبح ندّاً لمركزية صنعاء. كما أن هناك قوى إقليمية لم تكن لترحب بقيام مركز اقتصادي منافس في عدن، قد يؤثر على مشاريعها ومكانتها في المنطقة.
واليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود، نستذكر قول الله تعالى:
﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49]، وقوله عز وجل: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:46].
فقد قال الفقهاء: الجزاء من جنس العمل.
من حرم عدن فرصتها حتى لا تزاحم مراكز النفوذ في الشمال أو المراكز الاستراتيجية في الخليج، ها هو يرى اليوم كيف نزلت الضربة على أهم المنشآت الاقتصادية في الشمال ذاته؛ من مطار صنعاء إلى ميناء الحديدة. ولقد جرى هذا بأيدي جماعة الحوثي التي خرجت من رحم تلك السياسات المركزية، فإذا بالذي أراد أن يضعف الجنوب يجد شمال الوطن نفسه ينهار أمام عينيه.
إنها سنّة الله في الكون: لا ينهض وطن تُدار مشاريعه بالأنانية والمكايدة، ولا يستقيم عمران يقوم على الإقصاء والحرمان. ولو صفت النية يومها، لكان مطار عدن جسراً لوحدة حقيقية وتنمية شاملة. أما اليوم، فاليمن يدفع جميعه ثمن تلك الحسابات الضيقة.
إن قصة مطار عدن تذكير مرير بأن الأوطان تُبنى بالشراكة الصادقة، لا بالمركزية المتعجرفة، وأن عدن إذا أعطيت مكانتها، كانت وستظل بوابة اليمن إلى النهضة.