آخر تحديث :الأربعاء-03 سبتمبر 2025-02:24ص

التراث العربي كثير

الأحد - 24 أغسطس 2025 - الساعة 09:09 ص
أحمد عبد المعطي حجازي

بقلم: أحمد عبد المعطي حجازي
- ارشيف الكاتب


حين نتحدث عن الثقافة العربية يظن كثيرون أننا نتحدث عن تراث قديم، سواء أكان موقفهم دفاعاً عن هذا التراث، أم كان موقفاً آخر يدعون فيه للتجديد والحداثة.

فالذين يدافعون عن التراث يعدّونه أصلاً لهم لا يستطيعون أن يتنكروا له أو يستغنوا عنه، لأنه يمثلهم ويميزهم عن سواهم ويمنحهم في هذا العصر حقهم في أن يحتلوا المكان الذي احتله أسلافهم في العصور الماضية. أما الآخرون الذين ينادون بالتحرر والتجديد فينظرون للماضي نظرة سلبية، لأنه يشد المدافعين إلى الوراء كما يعتقدون ويجعلهم مقلدين لا يجددون ما ورثوه ولا يضيفون له شيئاً.

ونحن نرى أن أكثر الذين يتحدثون عن التراث سلباً أو إيجاباً يتصورون التراث مجرد مخطوطات قديمة محفوظة في الخزائن، وهو تصور مضلل. لأن التراث حافل بأصول لا تفنى ولا تفقد قيمتها التي تمكنها من أن تواصل حياتها في الحاضر وأن تضيف إلى ما أعطاه القدماء ما تستطيع أن تعطيه للمحدثين لو أنهم قدّروها حق قدرها، ونظروا إليها بعيون العصر الحديث، وميّزوا ما ينتمي للماضي وحده، وما ينتمي للإنسان ويلبي حاجاته عصراً بعد عصر.

ولا شك أن الثقافة العربية عامة، مثلها مثل غيرها من الثقافات الإنسانية مرتبطة بتراثها القديم لا تستطيع أن تنفصل عنه، لكن الارتباط بالتراث القديم شيء، والاكتفاء به شيء آخر. ومعنى هذا أن موقفنا من تراثنا القديم ومن العصر الذي نعيش فيه هو الذي يحدد للتراث مكانه ودوره الذي يؤديه في حياتنا. إذا كان التراث في نظرنا أصولاً حية قادرة على التجاوب والحوار استطاع أن يتطور ويتجدد ويستجيب لمطالب العصر الحديث، وإلا بقي مغلقاً محبوساً في عصره. وعلينا أن نعترف بأن الذين يعيشون في الماضي، أو فيما وصلهم من هذا الماضي يتوارثونه جيلاً عن جيل ويرفضون النظر فيه وإعادة اكتشافه، ويديرون ظهورهم للحاضر كأنه لم يكن، وكأن الزمان مكان لا يتحرك ولا يتحول ولا يتطور - علينا هنا أن نعترف بأن هؤلاء المحبوسين في الماضي الذي لا يعرفونه على حقيقته أكثر بكثير من الذين استطاعوا أن يتنقلوا بين الماضي والحاضر وأن يعرفوا لكل منهما حقه.

هؤلاء الذين يعيشون في الماضي كما يتصورونه، وليس في الحاضر بخبرة الماضي، يعتقدون أن الزمان اكتمل بهذا الماضي، وأن القدماء لم يتركوا للمعاصرين الذين جاؤوا بعدهم مكاناً يحتلونه أو كلاماً يضيفونه لما قدموه في هذه المخطوطات التي ظل كثير منها مغلقاً حتى الآن، وما على هؤلاء القادمين إلا أن يحفظوه من الضياع.

غير أن الذين يتعاملون مع التراث وكأن القدماء استنفدوه واستخرجوا كل ما فيه وقدموه للأجيال الجديدة يلبي كل حاجاتها في مستقبل لن يكون إلا تكراراً للماضي، هؤلاء يظلمون التراث إذ يحكمون عليه بالفقر والنفاد ظانين أنهم يدافعون عنه ويشهدون له.

والحقيقة التي يجب ألا تغيب عن البال هي أن التراث العربي كثير متعدد، وليس كما يتوهم كثيرون محصوراً فيما يعرفونه هم، سواء وصلوا إليه بأنفسهم أم بغيرهم.

التراث العربي بيئات وعصور، ومجالات متعددة وأصول مختلفة، واجتهادات ومذاهب شتى؛ لأنه بدأ من مكان وزمان، وانتشر في أمكنة وأزمنة أخرى، واتصل بالثقافات والحضارات التي وحّدها حيث انتشر، وتحاور معها وأخذ منها وأعطاها. ولهذا كان لا بد أن يختلف تراث العرب في العراق عن تراثهم في الجزيرة العربية، وأن يكون تراثهم في الأندلس مختلفاً عن هذا وذاك.

الغزالي في المشرق وفي الظروف التي عاشها ألّف كتاب «تهافت الفلاسفة»، لكن الظروف التي عاش فيها ابن رشد في الأندلس شجعته على أن يرد عليه بكتابه «تهافت التهافت».

بل إن المدارس والمذاهب تتعدد داخل البيئة الواحدة والزمن المحدود. في السياسة كانت السلطة في أيدي العباسيين عدة قرون، وكان يعارضهم الشيعة. وكان الأمويون يعارضون هؤلاء وهؤلاء. وكان الخوارج يعارضون الجميع. وفي اللغة كانت الكوفة مدرسة والبصرة مدرسة أخرى. وكان الفقه مذاهب وتيارات. والفرق واضح بين مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، وهو أوضح بكثير بين علماء الحديث وعلماء الكلام.

هذا الثراء، وهذه الحرية في التفكير، وهذه الاجتهادات كان ينبغي أن تجد في هذا العصر الذي نعيش فيه من يستلهمها ويواصلها بما يلبي حاجاتنا، ويظل وفياً للتراث أميناً معه، لأننا لا نستطيع أن نحيا بما ورثناه فحسب، وإنما نحيا به وبما نبحث عنه في الحاضر ونصل إليه، سواء اكتشفناه بأنفسنا أم نقلناه عن غيرنا الذين يعيشون معنا في عالم واحد، وأخضعناه للتجربة التي تظهر ما فيه من مزايا وتمكننا من السيطرة عليه والاستفادة منه. وهو المنهج ذاته الذي يجب أن نتعامل به مع ما ورثناه من أسلافنا وأصبح علينا أن نتحاور معه ونطرح عليه أسئلة عصرنا باحثين فيه عن جواب نجده في أصوله الحية وفي جوهره القابل لأن يتجلى من جديد وينمو ويتطور ويزود من يجتهد في معرفته بما لم يعرفه من قبل.

***

لكن هذا المنهج لم يستطع حتى الآن أن يفرض نفسه على كثيرين. والأسباب معروفة. وراءنا هذه القرون التي عشناها تحت حكم الغزاة الطغاة الذين أوقفوا حركة التاريخ وفرضوا علينا موقفاً من تراثنا اكتفينا فيه بحراسته، وعجزنا عن مواصلة العمل فيه والإضافة إليه.

وقد حل محل هؤلاء المستعمرون الغربيون الذين ضيّقوا الخناق علينا، واستولوا على بلادنا، وجعلوا أنفسهم أوصياء علينا، وحاربوا لغتنا وثقافتنا.

والأمية سبب آخر، لأنها تحرم الملايين من معرفة أنفسهم بأنفسهم.

والملجأ الذي لم نجد غيره أمامنا هو تقليد الأسلاف حماية للذات التي صارت مهددة بالضياع.

ولا شك أن الزمن تطور، وأننا ناضلنا في سبيل الاستقلال والحرية، وبنينا دولاً وطنية، وأنشأنا المدارس والجامعات، لكن الفرار إلى الماضي ظل خطراً يهددنا حتى اليوم، لأنه تحول إلى ثقافة وإعلام وشعارات قادرة على أن تخاطب الأمّيين الذين لا يزالون أغلبية.

غير أن هذه التطورات التي تحققت في القرنين الماضيين وأحيت ما استطاعت إحياءه من ثقافة الماضي أنتجت ثقافة عربية جديدة لا تزال تتشكّل وتتكوّن وتدافع عن حقها في الوجود.

وهذا ما يمكن أن نعود للحديث عنه.