آخر تحديث :السبت-18 أكتوبر 2025-12:07ص

عش الدبابير

الأربعاء - 27 أغسطس 2025 - الساعة 11:31 ص
حسين سالم العولقي

بقلم: حسين سالم العولقي
- ارشيف الكاتب


لا أنكر أنّ بعض مظاهر الرزانة مطلوبة. ليس من المنطقي أن تشتبك مع كلّ من يمر بجانبك، ولا أن تتحوّل

حياتك إلى سلسلة من معارك الشارع. لكن الموازنة شيء، والمشاعر شيء آخر تمامًا.

ظنّنت أن النجاح يولد من الشجاعة والجسارة. كنتُ أرى الشجاع هو ذاك الذي يلقي بنفسه في أعاصير المخاوف،

لا مباليًا بدوامة المجهول كالثور الأمريكي الذي لا يهرب من العاصفة، وإنما يركض في اتجاهها. لكنني، ومع

مرور الأيام، اكتشفت أنّ الشجاعة الحقيقية تتسم بالثبات والخطوات المدروسة؛ لا بقرع الطبول؛ بل تأتي هادئة،

متزنة، كالنهر الذي يعرف طريقه ولو اعترضته الصخور.

لكن دعوني أعود بكم إلى زمن مبكر، قبيل الوحدة اليمنية بأيام قليلة. كنت لاعبًا في نادي القلعة، ولكن ليس كما

تتوقعون نجمًا بارزًا في التشكيلة الأساسية، بل على دكة الاحتياط. ولعل تلك الدكة تضيق بجلوسي أكثر من

ضيقي أنا بها، خصوصًا أنّ زملائي الأصغر سنًا وفي مقدمتهم شقيقي كانوا أساسيين في الفريق. الأمر كان

يجرح كبريائي ويثقل مسيرتي الكروية الوليدة.

والدي يمقت الرياضة ويعتبرها مضيعة للوقت، ولكنه ينصحني بجملة قصيرة: “إذا ما طاعك الوقت، اطعه”. أي

تكيف مع الزمن ولا تعاند مجراه. لكنني في عنادي المبكر لم أسمع له.

حتى جاءت مباراة هامة وحاسمة بالدوري، انتظرت بفارغ الصبر أن يجري المدرب تغييرًا ويدفع بي. لكنه ظلّ

صامتًا كتمثال. دخلت الملعب عنوة، والجمهور الحاضر بين مصفّق بحماس تارة، ومصفّر باستهجان تارة أخرى.

وأنا بين الاثنين كالثور الهائج لا أرى طريقًا للعبور سوى مناطحة الرؤوس. رفضت الخروج، حتى بعد أن أوقف

الحكم اللعب، وبدأت الوساطات لإخراجي. وضعت شرطًا عجيبًا: أن يخرج شقيقي معي إلى الأبد!

يومها لم أكن أدرك أنني نكشت عش الدبابير.

أحسست أنّ ماء وجهي يوشك أن يُراق على أرض الملعب، لذا قررت قرارًا مصيريًا تأسيس نادٍ جديد. أطلقت

عليه اسم نادي الجزيرة. كان ناديًا صغيرًا، فوضويًا، متواضعًا، معظم لاعبيه من المشردين والعمالة السائبة

بالأجر اليومي. لعبوا معي “قبيلة” أكثر من كونهم فريقًا.

بل إن المدافع لدينا يضع “الشمة” في فمه قبل الإحماء، والحارس يشعل سيجارة متكئًا على عمود المرمى.

لكن تلك الفوضى لم تدم طويلًا. في لحظة رسم الخطط على رمال أحلامنا، أقبل من بعيد رئيس النادي السابق،

ومعه المدرب، وبرفقتهم رجل ثالث لم أره من قبل. كان يرتدي ربطة عنق، وبنطالًا أوسع من حجمه، أخرج

حقيبة ضخمة كأنها تحمل أسرار الحرب الباردة. اعتقدت للوهلة الأولى أن هناك تسوية أو ابرام صفقة. لكن

الأخير بدأ يخاطبني بلهجة شديدة ورسمية!

هيبته كانت توحي أنه مبعوث من الفيفا، لكن خطابه كان أقرب إلى محقق شيوعي تابع “أمن دولة”. اتهمني

بتعطيل النشاط الرياضي، وخرق النظام، واللعب لفريق آخر دون الحصول على استغناء من النادي السابق. بدأ

يهددني بفرض عقوبة صارمة، وكأنني ألعب في البريمير ليغ!

بل ذهب أبعد من ذلك بتحرير محضر جنائي بالاعتقال والسجن، لأن النظام في تلك الفترة لا يتساهل مع مثل هذه

“الجرائم”.

مفارقة عجيبة: كرة القدم جزء من النظام الصارم، وكل شيء مراقب في ذلك الوقت. بينما الحقيقة أن الدوري

بالكاد يمتلك كرة واحدة، إذا ضاعت، يتوقف الموسم بأكمله.

الانضباط جميل، وتطبيق النظام على الجميع أمر جيد. لكن المبالغة في العقوبات بغلو غير مبرر، تجعل أبسط

الهفوات قضايا جنائية كبرى. حتى ابتسامة في غير مكانها قد تُفسر كتهديد للنظام. حالة رعب اجتماعي غير

مسبوق، جعلت الناس يسيرون بحذر شديد، وكأنهم يمشون على حقل ألغام!

لا أستطيع أن أوصف ذلك الرعب والخوف حتى جاءت الوحدة بالوقت المناسب لتمنحنا شيئًا من الحرية

والإنسانية.

أدركت متأخرًا ما لم أفهمه يومها: ليست كل فكرة تستحق أن تُدافع عنها بالحماس المفرط، فبعض المعارك يكفي

أن تؤجلها حتى يحين الوقت