قضية "الإعاشة" التي يتداولها الشارع والإعلام اليوم ليست موضوعًا بسيطًا ولا عابرًا، بل هي قضية تمس مفهوم العدالة والشفافية، وترتبط بصورة الدولة والمجتمع أمام أنفسهم وأمام الآخرين.
أولًا: الإعاشة بين الحق والتنظيم
الإعاشة في أصلها حق لفئة محددة من الناس، وُجدت لتساعد من اضطرتهم الظروف للعيش خارج وطنهم، لكنها تحولت بمرور الوقت إلى موضوع خلافي؛ فهناك من يستحقها فعلًا، وهناك من حصل عليها دون وجه حق. المطلوب اليوم ليس تصفية حسابات ولا تحويلها إلى مادة للتهكم، بل وضع آلية عادلة وشفافة تمنح الحق لأصحابه، وتحمي المال العام من العبث.
ثانيًا: لا للفضائحية.. نعم للمعالجة المؤسسية
تداول ملفات الإعاشة بطريقة فضائحية أو بالشماتة لا يخدم المجتمع، بل يعكس صورة سلبية عنا ككل. الأفضل أن تكون المعالجة مؤسسية وقانونية، عبر لجان تحقيق ومحاسبة واضحة، بحيث يُحاسب من تجاوز أو استغل أو استفاد دون وجه حق، وفي الوقت نفسه تُصان كرامة الناس ويُحفظ احترامهم.
ثالثًا: ما بين الدولة والفراغ
إذا كانت هناك دولة فالقانون هو الفيصل، أما في ظل غيابها أو ضعفها، فإن المرجعيات الاجتماعية والدينية والأخلاقية تصبح خط الدفاع الأخير عن قيم العدالة. والمجتمع اليمني بطبيعته مجتمع قبلي عشائري، له قيم راسخة يمكن أن تسهم في الحد من الانفلات والعبث إلى أن تستعيد الدولة حضورها.
رابعًا: العودة إلى الداخل
الدعوة لعودة كل اليمنيين إلى الداخل في ظل واقع مليء بالميليشيات والانقسامات تظل غير موضوعية. الأولوية اليوم ليست فرض العودة بالقوة، بل إصلاح الداخل وإعادة بناء الدولة، حتى تصبح العودة خيارًا طبيعيًا وآمنًا للجميع.
خامسًا: الربط بين الإعاشة وخيانة الوطن
قضية الإعاشة، مهما بدت مثيرة للجدل، تظل مرتبطة بملف أكبر وأكثر خطورة، وهو ملف خيانة الوطن. فالكثير من الاختلالات المالية والإدارية هي انعكاس لغياب المشروع الوطني الجامع، ونتيجة طبيعية لصراعات سلطوية أضعفت مؤسسات الدولة. فتح هذا الملف بروح وطنية ومسؤولة سيقود بالضرورة إلى معالجة بقية الملفات، لأن الخيانة الوطنية هي أصل الداء.
ختامًا
لا نريد أن تتحول قضايا الإصلاح إلى معارك شخصية أو أداة لتصفية الحسابات، بل أن تكون خطوة نحو بناء مجتمع واعٍ وعادل. المطلوب اليوم أن نفتح الملفات بشجاعة وموضوعية، وأن نتعامل معها بروح إصلاحية، تضع مصلحة اليمن فوق كل اعتبار، وتجعل من العدالة والإنصاف قاعدة الانطلاق نحو المستقبل.