آخر تحديث :الإثنين-03 نوفمبر 2025-03:35ص

الميليشيا الحوثية وصراع الرمزية... قراءة في محاولة فصل التاريخ عن حاضرة

السبت - 30 أغسطس 2025 - الساعة 10:03 ص
مصطفى المخلافي

بقلم: مصطفى المخلافي
- ارشيف الكاتب


مصطفى المخلافي


منذ سنوات وأنا أتابع مسارات الفاعلين السياسيين في اليمن، من موضع المهتم بما تبقى من فكرة " المشروع الوطني الجامع" وخلال هذه المتابعة، كانت تتكرر أمامي كلما احتدمت الأحداث، أسماء بعينها لا تغيب رغم الضجيج ولا تُمحى رغم الحملات، حيث كان اسم القائد أحمد علي عبدالله صالح واحداً من تلك الأسماء التي لم تكن تحتاج إلى دعاية لتؤكد حضورها، ولم أكن أراه من زاوية منصبه أو نسبه فقط، بل من خلال ما كان يمثله ولا يزال من استمرارية لصوت عاقل في زمن طغى فيه منسوب التطرف والمزايدات.


في هذه اللحظة التي اختلطت فيها أوراق الولاء والمصلحة والانتماء، بدا لي أن ما يحدث بحق الرجل لم يكن معزولاً عن السياق، هو حلقة أخرى في سلسلة تستهدف ما تبقى من توازن في المشهد، وما تبقى من رموز قادرة على ترميم فكرة الدولة في وجه من يسعى لمحوها، ومن هنا جاءت هذه الشهادة، أو هذه الملاحظة الطويلة، ليس بوصفها دفاعاً ولا هجاء، إنما بوصفها محاولة للقبض على ما يراد طمسه، وفتح نافذة صغيرة على حقيقة تتعرض عمداً للتشويش.


لعلي عرفت القائد أحمد علي عبدالله صالح، من خلال ما يشبه المعرفة التدريجية التي تتكون في الذهن عبر الزمن، من خلال التفاصيل، ومن خلال المواقف، وكذلك من خلال ذلك النوع من الحضور الذي لا يحتاج إلى كثير من الضجيج ليفرض احترامه شيئاً فشيئاً، ولذلك ترسخ لدي يقين بأن الرجل بما يمثله، لم يكن مجرد اسم داخل حزب كبير كالمؤتمر الشعبي العام، إنما امتداداً لما تبقى من صوت العقل والتوازن والرغبة في بناء مشروع وطني جامع في لحظة تكاد تتآكل فيها كل المعاني.


وكان يمكن للميليشيا الحوثية أن تختار طريقاً آخر غير هذا الطريق، لكنها اختارت المؤامرة، عبر تكتيك قديم جديد، عزل الرموز عبر الإزاحة، ولذلك لم يكن قرار فصل أحمد علي عبدالله صالح من الحزب إلا جزءاً من هذا المشروع، مشروع تفكيك الذاكرة، ومحاولة سلخ الحزب عن تاريخه وعن رجاله وعن قاعدته التي صنعت اسمه وشرعيته، كل ذلك تحت يافطة قرارات إدارية تُمرر كما لو كانت تفاصيل عادية في لحظة عادية، لكنها ليست كذلك.


تذكرت وأنا أقرأ الخبر، محاولات كثيرة مرت بنا سابقاً حين كنا نشاهد كيف تُصنع القطيعة، بالإقصاء وبالاختلاف وبالإلغاء المختلف. إنهم لا يريدون فقط إقصاء أحمد علي عبدالله صالح، بقدر ما يريدون إزالة الطبقة الأخيرة من الغلاف الرمزي الذي يحمي الحزب من الذوبان التام في مشروع الميليشيا.


لقد تابعنا ذلك جميعاً، كمتفرجين وكمجتمع حي، يعرف تماماً أن حزب المؤتمر الشعبي العام لم يكن يوماً جهازاً يُدار من الخارج، وهذا ما يعرفه ويدركه الجميع بأنه كان جسد اجتماعي نابض بتاريخه، ممتد بجماهيره، حي برجاله الذين بقوا على العهد، ولذا فإن القرار الأخير لم يكن خلاف داخلي كما تحاول ميليشيا الساقط عبدالملك الحوثي الترويج له، بقدر ما هو إعلان واضح عن نية ميليشيا الحوثي محو لحظات الحزب الوطنية الجامعة، وهذا ما لم يحدث.


ربما ما دفعني للكتابة، هو شعور غريب يتسلل إلي كلما قرأت نصوصاً عن محاولة فصل الأحزاب عن ذاكرتها، كما حدث في العراق مع حزب البعث، وتذكرت كيف تحدث أحدهم يوماً عن إعادة تدوير الوجوه الفاشلة، كتكتيك لإخراج مشروع بلا مضمون، وها نحن نرى ذلك يتكرر، بأسماء خانت العهد، ووجوه مستهلكة، يعاد تصديرها كما لو أن الزمن لم يتحرك.


وفي خضم كل ذلك، يبقى القائد أحمد علي عبدالله صالح، كما عرفناه هادئاً مستنداً إلى ما لا يمكن شطبه بقرار، الرصيد الرمزي، والثقة التي بُنيت على سنوات من الصمت الحكيم والعمل، وكذلك الملايين من الناس الذين يرون فيه شخصية استمرارية لتاريخ، وممكناً ورافداً لمستقبل البلاد.


منذ البداية كان واضحاً أن الميليشيا تريد تشظية الحزب، ولذلك فإنها تحاول اليوم أن تبتر كل خيط ممكن يربط الحزب بجذوره، حتى تفرغه من مضمونه، وتعيد تركيبه في شكل فارغ، يصلح فقط لتزيين مشروعها، لكنها تنسى شيئاً مهماً، أن حزب المؤتمر الشعبي العام، يستقيم بالشرعية المتجذرة، وبالعلاقات الحية والرموز التي اختبرها الناس في اللحظات العصيبة.


هكذا يكتشف أمامنا المشهد، كحادثة سياسية مؤلمة، ومحاولة شاملة لإعادة تشكيل الخارطة، وفق منطق المصادرة والاستفراد، لكن التاريخ بكل ما فيه من مرونة، لايمكن محوه بقرار، وسيظل القائد أحمد علي عبدالله صالح حاضراً في الذهنية الشعبية، لأنه جزء من بنية معنوية عصية على التفكيك، متجذرة في وجدان جمهور لم يفقد بعد ذاكرته.