لم يكن المولد النبوي في الوجدان اليمني مناسبة صاخبة تقاس بالحشود والأضواء والميادين المزدحمة، بل كان احتفالاً هادئاً نابضاً بالروحانية الشعبية، يُستحضر فيه معنى الرحمة والاقتداء، لا معنى الهيمنة والسلطة. كانت البيوت الشافعية تحيي الليلة بقراءة القرآن والمدائح وتوزيع الطعام، فيما بقيت الطائفة الزيدية أقل اكتراثا بها، محافظة على تقليدها الخاص في يوم الغدير باعتباره عنوان الولاء والوصاية.
لكن انقلاب الموازين منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء كشف أن الدين في يد السلالة لا يبقى دينا، بل يتحول إلى أداة. فجماعة الحوثي لم تكتف بالسيطرة العسكرية والإدارية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ استملاك المقدس.. حولت المولد من ذكرى نبوية إلى مسرح سياسي، ومن طقس اجتماعي إلى استعراض سلطة ناشئة تبحث عن شرعية مفقودة.
في مشهد يبدو أقرب إلى مهرجانات الدول الكبرى، تفرش الجماعة شوارع المدن بالزينة الخضراء، وتستدعي ملايين الناس إلى الساحات في احتفالات تمتد شهرا كاملا. أرقام الفعاليات وحدها صادمة، أكثر من مئتي ألف نشاط تحضيري، وأربع عشرة ساحة رئيسية للاحتفال في عدد من المحافظات الواقعة تحت سيطرة الجماعة، وملايين الحاضرين تحت رعاية مؤسسات الدولة المنهوبة. هنا يتجاوز المولد حدود المناسبة الدينية، ليصبح إعلانا سنويا عن سلطة الحوثيين، سلطة تستعرض قدرتها على الحشد والتنظيم والتمويل، وتُقدم نفسها ككيان شرعي بديل عن الدولة اليمنية الغائبة.
غير أن هذه المهرجانات الضخمة ليست مجانية. فالمولد بالنسبة للجماعة موسم جباية. التجار يُستنزفون تحت التهديد، المدارس تُحول إلى صناديق تبرع قسري، والمزارعون والفقراء يُجبرون على تقديم ما يملكون. هكذا يصبح الحب النبوي الذي كان يوما طوعيا ووجدانيا، عبئا ماليا إضافيا على شعب يرزح تحت الجوع وانقطاع الرواتب.. المفارقة أن ملايين الريالات تُهدر على الأضواء واللافتات والخطابات، بينما لا يجد الناس ما يسد رمقهم.. أنوار لا تضيء بيوت الجياع، وأناشيد لا تملأ بطون الأطفال.