آخر تحديث :الأربعاء-03 سبتمبر 2025-02:24ص

اليمن بين حاكم سادي ومواطن مازوشي

الثلاثاء - 02 سبتمبر 2025 - الساعة 04:34 م
د. يوسف المقطري

بقلم: د. يوسف المقطري
- ارشيف الكاتب


يستكشف هذا المقال طبيعة العلاقة المعقدة بين الحاكم والمحكوم في اليمن من منظور (نفسي، اجتماعي، اقتصادي)، يتم تحليل المظاهر التاريخية والمعاصرة لهذه العلاقة، وكيفية تشكلها عبر البنية السياسية والقبلية والدينية، مستندًا إلى مفهوم المازوشية–السادية النفسية، حيث ينتج تداخل الاستغلال والقهر من جهة، والخضوع والتماهي من جهة أخرى، حلقةً مفرغة من الاستبداد وإعادة إنتاج الخضوع. يوضح المقال كيف تُستخدم الموارد الاقتصادية، والوظائف، والتحكم في التجارة، والولاءات العقائدية، والبنية القبلية، والسيطرة الإعلامية، في تعزيز هذه الحلقة. ونختتم بمجموعة من التوصيات التي يمكن أن تساهم في إعادة صياغة العلاقة على أسس مؤسسية.

المقدمة

العلاقة بين الحاكم والمحكوم في اليمن واحدة من أكثر النماذج تعقيدًا في المنطقة العربية، إذ تتجاوز حدود الاستبداد التقليدي أو التبعية الاقتصادية لتصبح علاقة نفسية واجتماعية قائمة على تقبّل الألم وتطبيع الظلم.. فمن جانب، يمارس الحاكم السيطرة عبر الاقتصاد )الثروة، والوظائف، الموارد) وسائل اقتصادية مباشرة لفرض الولاء، ومن جانب آخر، توظف الخطابات الدينية والطائفية، والولاء والقبلي، معززة بالتظليل الإعلامية لترسيخ الولاء. هنا يصبح مفهوم السادية–المازوشية إطارًا تحليليًا مناسبًا للحالة اليمنية فالحاكم يتلذذ بإذلال المحكوم، بينما يتقبّل الأخير ذلك الألم بوصفه واجباً وقدرًا أو "شرًا لا بد منه".

أولاً: السادية والمازوشية في السياق اليمني:

جدلية العلاقة بين الحاكم السادي والمحكوم المازوشي من الناحية الاقتصادية المادية هي من أعقد صور الاستغلال المتبادل، وتعكس دورة عنف اقتصادي واجتماعي ونفسي تتغذى على بعضها بطريقة غير متكافئة.

فالسادية النفسية: تعبر عن الميل إلى إلحاق الأذى والألم وإذلال الآخرين. في السياق اليمني، تظهر السادية السياسية؛ من خلال إدامة الفقر والجهل كوسيلة لضمان السيطرة، والقمع والانتقام لإرهاب الآخرين وترسيخ الخوف الجماعي، والاستحواذ على الثروة وتوزيعها كهبات للموالين) وفي عهد الجمهورية، استمرت تلك السادية بصور حديثة من خلال (تقاسم الثروة، وريع العقود، والوظيفة العامة والخاصة، والمساعدات، والمحسوبية، والزبائنية) كوسيلة للضبط، بحيث يكون الولاء شرطًا للبقاء الاقتصادي. فالحاكم السادي اقتصاديًا: هو من يتلذذ بتعذيب المحكوم عبر الإفقار، التجهيل، والإذلال، وإدامة الاعتماد عليه. يُحوّل أدوات الدولة إلى وسائل إخضاع واستغلال لا إلى تنمية ورفاه.

المازوشية النفسية: الميل إلى تقبّل الأذى والألم أو حتى الاستمتاع به. في السياق اليمني، تظهر المازوشية الاجتماعية؛ من خلال تبرير الظلم تحت مسميات "الأرحم" أو "القدر"، البحث عن القائد القوي حتى لو كان مستبدًا، الطاعة العمياء بل والمشاركة في تثبيت السلطة الجائرة، وحتقار فكرة القيادة التشاركية أو المؤسساتية). فالمحكوم المازوشي اقتصاديًا: هو من يتقبل الحقوق المادية بالإذلال بل ويدافع عنه، ويجد فيه نوعًا من "عطية وهبة الحاكم"، ويتماهى مع الجلاد لأنه لا يرى بديلاً أو لا يثق بقدرته على التغيير.

ثانيًا: الجذور التاريخية للعلاقة:

تعود جذور هذا النمط إلى قرون من الحكم الفردي، سواء في ظل الأئمة الزيدية أو السلطات القبلية أو الأنظمة الجمهورية التي ورثت أدوات الاستبداد، كانت السلطة في اليمن تميل إلى الشخصنة بدلًا من المؤسسية؛ فالولاء يدور حول الحاكم نفسه أو أسرته أو قبيلته، محكوم بنظام تراتبي هرمي، وعلاقة أفقية غير مستقرة، وليس حول فكرة الولاء لدولة أو القانون. في حكم الأئمة الزيدية كان مفهوم "الرعية" قائمًا على الطاعة المطلقة للإمام باعتباره "ظل الله في الأرض"، واعتبار أي معارضة نوعًا من العصيان الديني، وهو ما رسّخ ثقافة الخضوع المازوشي. وفي الجمهورية الأولى: انتقل التركيز إلى الولاء الشخصي أو القبلي، لكن مع استمرار أسلوب التحكم نفسه. هذا جعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقةً غير متكافئة، حيث يرى الحاكم نفسه مالكًا للبلاد والعباد، بينما يتقبل المحكوم هذا الوضع على أنه "طبيعي" أو "قدر". واليوم يتم إعادة إنتاج الماضي في بعض مناطق اليمن المحكومة بالتبعية الدينية والعصمة الألهية.

ثالثا: الحلقة المفرغة:

1- العلاقة السادية–المازوشية الاجتماعية:

تتولد الحلقة المفرغة بين سادية الحاكم ومازوشية المحكوم، حيث يمارس الحاكم السادية بالظلم عبر القمع والإذلال كسلوك سادي ، يتقبّل المحكوم المظلومية بالألم بحكم العادة أو الخوف أو التقاليد أو التعبية الطائفية والدنية في الولاء والطاعة العمياء، يعزز هذا القبول شعور الحاكم بالقوة والألوهية، فيضاعف جرعة القمع ليس لمجرد القمع بل بلذة الأذلال وهوما كان عليه حكم الأممة الزيدية، مع الزمن، يصبح الطرفان متكيّفين نفسيًا مع هذا النمط، فيغدو تغييره صعبًا.

2- الاقتصاد كمحرك للخضوع:

الاقتصاد في اليمن ليس مجرد مجال للإنتاج والتبادل والتنمية والرفاه، بل هو أداة مركزية لإخضاع المواطنين. يتم توجيه التنمية الضيقة والمناطقية والوظائف العامة وفق اعتبارات الولاء، حيث تنحصر التنمية والوظيفة في القطاع العام لمن يخضع مباشرة لسلطة الحاكم أو لمقربين منه مشكلا الزبائنية التخادمية. ويدخل القطاع الخاص التركيبة؛ فالمستثمر الذي لا يرتبط بعلاقة زبائنية مع السلطة – تقوم على تقاسم الثروة والحصول على ريع العقود الحكومية – يجد نفسه محرومًا من فرص الأستثمار. هكذا يصبح الاقتصاد نفسه دائرة مغلقة: الولاء يولد فرصة اقتصادية، والفرصة الاقتصادية تغذي الولاء، بينما يتم استبعاد المعارضين اقتصاديًا، ما يدفعهم إما إلى الخضوع أو التهميش.

3- العلاقة السادية–المازوشية الاقتصادية:

(أ) الاستغلال الاقتصادي: (الحاكم ينهب الثروات، يضعف الخدمات العامة، يديم البطالة، ويوزع الريع بشكل زبائني).

(ب) الإفقار المنظم: (المواطن يزداد فقرًا، يعتمد على الدولة أو الزعيم أو الطائفة في البقاء).

(ج) الجهل وتغييب الوع: يُحرَم المواطن من المعرفة والتمكين، ويُغرق في إعلام تضليلي وديني أو قومي تعبوي.

(د) الرضوخ والتماهي: المواطن يبدأ في تبني سردية الحاكم: لأنه أهون الشرّين.

(هـ) شرعنة الاستبداد: تعود هذه التبريرات لتغذي سلطة الحاكم وتعزز أدواته القمعية، وتبدأ الدورة من جديد. النتيجة: حلقة مفرغة من الاستغلال والتواطؤ النفسي-الاقتصادي.

رابعاً: التعليم وعودة نفس الذهنية التقليدية:

1- إعادة إنتاج الذهنية التقليدية:

تلعب البنية الذهنية الموروثة في اليمن دورًا كبيرًا في تشكيل سلوك الأفراد، حتى لو كانوا قد درسوا في أرقى الجامعات العالمية فهم يعودون إلى اليمن ويقصدون شيخ القبيلة أو رجل السلطة ليقبّلوا يده أو ركبته طلبًا للوظيفة والمنصب، مما يدل على استمرار آليات الخضوع، وتصبح الشهادة مجرد غطاء اجتماعي"حتى لا يقال إنه غير متعلم"، حيث يبحث الأفراد عن الوظيفة والمنصب من خلال العلاقات الاجتماعية وليس من خلال الكفاءة العلمية. هذا السلوك يرسخ الطابع النفسي المازوشي في علاقة حديثة، حيث يُسخَّر العلم لخدمة التخلف، ويسقط العقل تحت أقدام الزعامة القبلية والطائفية. فالهوية الأولية (العقائدية، القبلية، الطائفية، الجهوية) تظل مزروعة في عمق لا شعوره، وتُستدعى عند أول صدمة أو مصلحة، فالعلم يغيّر "الأفكار" لكنه لا يغير "البنى النفسية والاجتماعية" بسهولة، خصوصًا إذا عاد الشخص إلى بيئة لم تتغير، بل تُعيد تشكيله مجددًا.

2- حالة الانفصام بين الحداثة والانتماء التقليدي للنخب:

ينطبق الحال على النخب فرغم سفرها واطلاعها على أرقى الأنظمة، إلا أن البنية الاجتماعية والسياسية التي تستقبلهم في اليمن ما زالت تقليدية، زبائنية، تقوم على المحسوبية والانتماء الجهوي والطائفي. فلا توجد مؤسسات دولة حقيقية تحتكم إلى الكفاءة والجدارة بل يوجد نظام توزيع منافع، تتقاسمه نخب تقليدية وقبلية، ويتطلب الولاء الشخصي لا الولاء الوطني من أراد منصبًا، فعليه أن يدخل عبر هذا الباب، وإلا بقي على هامش القرار.

3- الأنة متلازمة النخبة:

البعض من النخبة يرى أن قيمة علمه لا تتحقق إلا بالمنصب، والمنصب لا يتحقق إلا بالولاء، فيتحول إلى أداة في يد السلطة، ويُسخّر علمه لتبرير التخلف لا لمواجهته، إنه تواطؤ ناعم يبدأ بالتبرير وينتهي بالمشاركة في الفساد.

خامساً: الحريات كأداة مراقبة وضبط:

القبول السياسي بالحقوق والحريات في اليمن غالبًا ما يكون أداة للسيطرة لا للتحرير. يتم تشجيع الأكاديميين والمثقفين على التعبير العلني عن آرائهم، لكن الهدف الخفي هو إخراجهم من الظل، لتسهيل مراقبتهم وتصنيفهم ومحاصرتهم. من لا يقبل الخضوع يتم قمعه إما بالسجن أو بالاستهداف الاقتصادي الممنهج، ليس فقط بحرمانه من الوظيفة العامة، بل أيضًا عبر الضغط على أرباب العمل بعدم تشغيله. وهكذا يتحول "فضاء الحرية" إلى شبكة كشف وملاحقة، تغذي السادية السلطوية وتعيد إنتاج الخضوع المازوشي.

سادساً: الهويات الدينية والطائفية:

تُستخدم العقيدة، لا سيما في إطار الإسلام السياسي والعقائد الطائفية الزيدية وغيرها، كأدوات لضبط الولاء لا يحصل المواطن على الأمتيازات الاقتصادية والمادية إلا إذا التزم طاعةً وخضوعًا تامًا لقيادة الجماعة. الاعتراض أو مناقشة فكرة صادرة عن الزعيم يُعتبر خروجًا عن الطاعة، يترتب عليه الحرمان المادي والاجتماعي. بهذه الطريقة، تتحول العقيدة من إطار قيمي إخلاقي إلى أداة للتحكم المعيشي والنفسي، وتندمج في منظومة السادية–المازوشية من خلال تحويل الإيمان إلى ولاء شخصي للحاكم أو الزعيم.

سابعاً: البعد القبلي الزبائني:

لم تعد القبيلة في اليمن هي المؤسسة التقليدية التي تحمي وتناصر أبناءها، بل تحولت إلى وسيط ريعي وذراع للابتزاز الاقتصادي. يتوجب على الفرد أن يكون خاضعًا تمامًا لشيخ القبيلة، هذا النظام يجعل الولاء القبلي أداة ضغط موازية للولاء السياسي، ويضيف طبقة أخرى إلى شبكة الإخضاع، حيث يصبح الفرد مدينًا اقتصاديًا واجتماعيًا لمؤسسة لم تعد تسعى لحمايته، بل لاستغلاله.

ثامناً: البعد الإعلامي–الذهني:

من خلال السيطرة على الإعلام وتوجيه الخطاب العام عبر القنوات الرسمية والدينية، تنجح السلطة في خلق حالة من التشتت الذهني لدى المواطن، تخلط بين الواقع الفعلي والسردية الرسمية. ومع تكرار الرسائل الموجهة، ينتقل الفرد إلى مرحلة يمكن وصفها بالاستبطان المازوشي؛ يُعاد تشكيل وعي المواطن، حيث يرى أن ما يتعرض له من ظلم وألم هو واجب أو قدرأو تضحية، بل قد يعتبر نفسه ظالمًا لنفسه إذا لم يقبل به. هذا التحول النفسي هو أخطر مراحل الخضوع، لأنه يعتبر المقاومة تبدو عبثية، ويجعل استمرار السادية السلطوية أمرًا طبيعيًا في نظر الضحية نفسها.

تاسعاً:علاقة التبعية لدى الحاكم اليمني نفسه:

من الدلائل والتجارب السياسية اليمنية، أنّ الحاكم غالبًا ما سعى إلى تثبيت سلطته عبر الأستعانة بالخارج أكثر مما اعتمد على الداخل. فقد تحوّل هذا النهج إلى سلوك متوارث تاريخيًا، وجزءًا من الثقافة السياسية للحكم في اليمن، حيث يستمد الحاكم شرعيته وديمومته من مراكز القوى الخارجية بدلًا من تأسيس قاعدة شرعية داخلية متينة. هذا الوضع أوجد علاقة تبعية مزدوجة: من جهة، الحاكم؛ يُقدِّم نفسه كـ"رهينة" في يد الخارج مقابل الدعم السياسي أو العسكري أو المالي، ومن جهة أخرى؛ تنعكس هذه التبعية على الداخل في شكل تبعية قسرية ومازوشية سياسية، تجعل تبعية الحاكم للخارج هي المرجعية الأساسية لاستمرار حكمه في اليمن. ليُعاد إنتاجه عند كل منعطف تاريخي وهو ما يحصل اليوم تحديدا، وما يفسّر هشاشة التجربة السياسية، وسرعة انهيار أي محاولة لبناء دولة مستقلة ذات سيادة ومؤسسات مكتملة.

الخاتمة

العلاقة بين الحاكم والمحكوم في اليمن منظومة معقدة، تتجاوز الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي إلى إعادة تشكيل البنية النفسية والاجتماعية. يغذيها الاقتصاد، والتعليم، والدين، والقبيلة، والإعلام، وتنتج مواطنًا مازوشيًا يتقبل الألم وحاكمًا ساديًا يتلذذ بالتحكم. في ظل غياب مشروع وطني جامع، أو دولة مؤسسات، يبقى الانتماء التقليدي هو شبكة الأمان الوحيدة، وهي التي تضمن لك الحماية، والوظيفة، والوساطة، ورفع المظلمة. استمرار هذا النمط يعيق أي تحول ديمقراطي أو تنموي حقيقي.

ما يحدث في اليمن هو نتيجة تراكم بنية سلطوية تقليدية، ومجتمع لم يتجاوز مرحلة العصبية، ونخبة مأزومة بين قيم الحداثة ومتطلبات الولاء لم تنجح في كسر الحلقة، ولهذا تتآكل قيم الجمهورية والمدنية لحظة احتكاكها بالواقع الاجتماعي والسياسي.

الحلول المقترحة لمعالجة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في اليمن:

إعادة هيكلة النظام الاقتصادي لضمان توزيع شفاف وعادل للموارد والوظائف، بعيداً عن الولاءات السياسية أو القبلية، يحد من الزبائنية ويعزز الاستقلالية الاقتصادية للمواطن. تحرير الفضاء الإعلامي وإنشاء منصات مستقلة تناقش الحقائق بحرية وتعزز الوعي الجمعي. إصلاح النظام التعليمي للتركيز على القيم المدنية والاستقلال الفكري، مع الابتعاد عن المناهج العقائدية الجامدة، بحيث يصبح التعليم أداة للتمكين وليس مجرد تحصيل شكلي. إعادة تعريف دور القبيلة لتتحول إلى إطار للتكافل الاجتماعي بدلاً من كونها أداة ريعية تخدم مصالح النخب. فصل الدين عن أدوات التحكم المعيشي، مع ضمان تقديم الخدمات بشكل شامل دون اشتراط الولاء. تعزيز الوعي النفسي الجمعي وتطوير برامج ومبادرات تهدف إلى كسر أنماط الخضوع وتمكين المواطن كفاعل نشط بدلاً من متلقٍ سلبي. إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس الحقوق والواجبات المتبادلة، مع تعزيز الوعي الحقوقي عبر التعليم والإعلام. وبناء مؤسسات تفصل بين الشخص والسلطة، وتشجع ثقافة المحاسبة والمساءلة على جميع المستويات. وأخيراً، دمج البعد النفسي في الإصلاحات السياسية لفهم أنماط الهيمنة والخضوع بشكل أعمق، يساعد في تصميم استراتيجيات أكثر فعالية للتغيير.

د. يوسف شمسان المقطري

القاهرة/ 1 سبتمبر 2025م