مرت ثمانية وخمسون عامًا على إسقاط السلطنة القعيطية في المكلا - حضرموت على يد ثوار الجبهة القومية، وتبعتها السلطنة الكثيرية في سيئون بوادي حضرموت ، بعدها أصبحت حضرموت ضمن دولة الجنوب، التي كانت تُدار من العاصمة عدن ..
كنا حينها أطفالاً لا تتجاوز أعمارنا الخمس سنوات، وفوجئنا بمظاهر جديدة وغريبة تظهر أمامنا. في الوادي، كنا نشاهد مجاميع قبلية تحمل السلاح، تدخل مراكزنا المدنية، وسمعنا أن هناك دولة جديدة تُبنى، تهدف إلى إقامة نظام عصري، غير خاضع للاستعمار، بل تحكمه قوى وطنية محلية.
لأوّل مرة، أسمع خطابًا لشخص يُقال له فيصل العطاس، يتحدث عن الثورة وأهدافها، وذلك في ساحة عامة بقريتنا في الوادي ، وانتهت الدولة السابقة وظهرت الميليشيات، وما يُعرف بـ"الحرس الشعبي"، بالإضافة إلى التشكيلات العسكرية التي كانت قائمة في عهد السلطنة.
كان الجميع يُصفّق ويُبتهج بقدوم نظام جديد وحكومة جديدة، وعمّت الاحتفالات مدن الوادي والساحل ، هكذا عايشنا تلك اللحظات بعد سقوط السلطنة، وكان الشعب يتوقّع تحسنًا في كافة جوانب الحياة ..
سمعنا لاحقًا عن تشكيل الحكومة وتعيين قحطان الشعبي رئيسًا للجمهورية ، زار رئيس الحكومة مدينة سيئون وكنا أطفالًا لم نذهب، لكن العديد من الشباب توجهوا إلى هناك لمشاهدة الرئيس وسماع خطابه ، نقلت إلينا أخبار تلك الزيارة، ومنها الحديث عن قانون الإصلاح الزراعي، وقرارات أخرى ..
وفي عام 1969حدث ما أُطلق عليه "تصحيح الثورة"، وهو في حقيقته انقلاب أُزيح فيه قحطان الشعبي وعدد من الوزراء. دخلت البلاد بعد ذلك في توجه جديد، وتغير اسم الدولة من "جمهورية اليمن الجنوبي" إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" ..
رافق ذلك تغييرات كبيرة أثّرت على المجتمع بأسره، منها حملات التأميم في عدن والمكلا وسيئون، ومصادرة الأراضي الزراعية والممتلكات الخاصة. كما دخلت الدولة في عداء مع بعض الجيران، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، رغم وجود جالية حضرمية كبيرة فيها، وذلك بسبب الانحياز إلى المعسكر الاشتراكي، ومنع السفر، وسنّ قوانين تُجسّد التوجه الاشتراكي ..
استمر هذا الوضع 23 عامًا ، عانى الشعب خلالها معاناة شديدة، وإن كانت هناك بعض الإيجابيات، مثل النظام والانضباط، والتعليم المجاني، والرعاية الصحية، والأمن، والثقافة، واستقرار معيشي نسبي، وغياب الرشوة، وسيطرة القطاع العام على الاقتصاد ..
لكن الصراعات بين القيادات ظلت السمة البارزة، وتحديدًا داخل التنظيم السياسي الحاكم.
في عام 1978، تحول التنظيم إلى حزب، وبدأ انفتاح نسبي وتحسن ملحوظ، إلا أن ذلك لم يدم طويلًا، حيث جاءت موجة صراع جديدة في عام 1986، في أحداث 13 يناير، بين "الرفاق"، التي انتهت بانتصار فريق وهزيمة آخر، وخروج المهزومين إلى صنعاء ..
سقط الآلاف ودُمّرت العديد من مباني عدن، وقُتل عدد كبير من القادة والمجندين، ومعظمهم من طلاب الثانوية الذين جُندوا قسرًا، وأغلبهم من حضرموت، فضلًا عن العسكريين في الجيش وقوات الأمن ..
حضرموت في الواقع لم تشهد مواجهات أو قتال يُذكر في تلك الأحداث ، باستثناء حالتين أو ثلاث، قُتل فيها أفراد بسبب تأييدهم لجناح علي ناصر محمد. أما الغالبية ، فكانت مع المنتصرين بقيادة علي سالم البيض ، وبعد ذلك أصبح البيض أمينًا عامًا للحزب ، وتم تعيين حيدر العطاس رئيسًا للدولة ..
في تلك الفترة فُرض على حضرموت أن تكون تابعة لدولة الجنوب وكان الشعب يعاني، ويتذكّر الحضارم الأمن والاستقرار الذي عاشته حضرموت في عهد السلطنات وبدايات النهضة الحضرمية، رغم ظروف تلك المرحلة العالمية، وصعود حركات التحرر الوطني وخطابات الزعيم جمال عبد الناصر ..
لم تكن حضرموت قبلها تعرف الأزمات أو الاختناقات حيث كانت السلطنات الحضرمية منفتحة بمقاييس ذلك العصر على العالم العربي ، وخاصة دول الجزيرة العربية ، وإن لم تكن هناك سفارات أو قنصليات داخلها، بسبب الحماية البريطانية ، وكانت القنصليات الأجنبية موجودة في عدن ، مثل الممثلية الأمريكية في منطقة التواهي الذي ما زال مبناها قائماً خلف فندق الهلال ..
فماذا استفادت حضرموت من سقوط سلطناتها؟
كانت السلطنات قد بدأت بالفعل في إرسال البعثات العلمية والتنقيب عن الثروات في صحراء ثمود ، أجريت دراسات لتحديد مكامن الثروات في حضرموت، ووضعت بريطانيا خرائط أولية لمواقع البترول والنفظ ، حتى الشعراء في حضرموت تغنّوا حينها بالنفط، ونتذكر جميعًا أغنية المفلحي: "يا حضرموت افرحي" ، وازدهرت الهجرة الحضرمية إلى الخليج بعد ظهور النفط ، كما استمرت في مهاجرها القديمة في شرق آسيا وأفريقيا ..
لكن حضرموت سقطت، ودخلت في نكبة لم تتوقف منذ 58 عامًا ، وجاءت نكبة ثانية ، حين أُجبرت حضرموت على الدخول في وحدة مع دولة الجنوب ثم مع دولة الشمال ..
كان عدد السكان في الجنوب حينها لا يتجاوز مليونين مقابل عشرين مليونًا في الشمال ، ومنذ حرب 1994 وحضرموت تُنهب ثرواتها وتُدار من خارجها ، ويُساق شعبها رغمًا عنه تحت سلطة القوي ، وزادت معاناته مع الاحتلال الحوثي للشمال ، واحتلال القاعدة لبعض مناطق حضرموت الذي استمر لعام كامل، قبل أن تتحرر ..
تأملنا خيرًا لكن تدهورت الأوضاع على كل الأصعدة : الخدمات، التعليم، الصحة، الاقتصاد، والمجتمع ، ولا يبدو أن هناك تحسنًا يلوح في الأفق القريب ، سقطت السلطنات وظل القهر والضيم يملأ قلب كل حضرمي، بسبب فقدان دولته المستقلة ..
فهل ستتكرر المأساة؟
في ظل ما نشهده اليوم من أحداث وتوجهات يبدو أن حضرموت تنتظرها نكبات جديدة ، بسبب ولاء بعض أبنائها لغير حضرموت ، وبُعد البعض عن وعي وإدراك المخاطر التي تحيق بهم ..
وفي هذا السياق، يؤكد حلف حضرموت أن الحل يكمن في وحدة الصف الحضرمي وانتزاع الحقوق السياسية والعسكرية من المسيطرين، وتحقيق الحكم الذاتي الواسع لحضرموت ، الذي يكفل للحضارم حقوقهم وكرامتهم ووسائل العيش الكريم وتنمية مستدامة والسيطرة على ثرواتهم ومحاربة الفساد ، واتخاذ الحوار الهادئ والبناء وسيلة لتحقيق هذه الأهداف ، وتجاوز الخلافات عبر الحوار مع من لم يستوعب بعد أهمية الحكم الذاتي لحضرموت .
بقلم: أ.د. خالد سالم باوزير