آخر تحديث :الجمعة-19 سبتمبر 2025-02:19ص

شهادتي للتاريخ.. سُقُوط (قناة اليمن) سُقوطٌ الدَّولة وانكسارها !!

الخميس - 18 سبتمبر 2025 - الساعة 10:55 م
حسين باسليم

بقلم: حسين باسليم
- ارشيف الكاتب


في البدءِ كان الوطنُ وكان الموقفُ.. في ذاكرة الشُّعُوب لحظاتٌ لا يطويها النسيانُ مهما تجاوزتها السُّنُون.. لحظاتٌ يتوقَّفُ فيها الزَّمنُ، ويتجمَّدُ المشهدُ على صُورةٍ تختزل ألماً وفخراً معًا.. صورةٍ لوطنٍ يُطعَن في خاصرته، وقلبه، ورجالٌ يذودون عن شرف الكلمة حتى آخر نبضٍ.


ومن بين هذه اللحظات يظلُّ يومُ التاسعَ عشرَ من سبتمبر 2014م محفورًا في وجدان الإعلام اليمني جرحاً ووساماً في آنٍ واحدٍ.. جرحاً؛ لأنَّ الدولة انكسرتْ على شاشةٍ كانتْ تُمثلُ رمزَ سيادتها، ووساماً؛ لأنَّ رجال الكاميرا، والميكروفون حوَّلوا المبنى المُحاصرَ إلى جبهةٍ، والعدساتِ إلى بنادقَ، والهواءَ المُباشرَ إلى خندقٍ يُقاتلون منه بأدوات الحقيقة.


إنَّها ليستْ قصَّةَ سُقُوطِ قناةٍ كما يتخيَّلُ البعضُ، بل هي قصَّةُ سُقُوطِ وطنٍ ظلَّ صوتُه عالياً يقاومُ حتى لحظة الصَّمتِ القسري.


ومع حلول ذكرى هذه المُناسبةِ عادتْ بي الذاكرة إلى الوراء 11 عامًا، إلى ذكرى أيَّامٍ سوداءَ في تاريخ اليمن المُعاصِر، الذاكرة التي ظلَّتْ طيلةَ هذه السَّنوات تحتفظُ بكُلِّ تفصيلٍ من تفاصيلها، أيَّام 19 و20 و21 سبتمبر 2014، وتحديدًا ليلة سُقُوط التلفزيون (قناة اليمن الفضائية والأولى) القناة الرَّسميَّة للجُمهُوريَّةِ اليمنيَّةِ ومجمع التلفزيون، بأيدي ميليشيات الحُوثي.


ليلة سُقُوطِ الدَّولة اليمنيَّةِ وعاصمتُها صنعاء – حتَّى اليوم – في قبضة هذهِ المليشيا الكهنُوتيَّة الظلاميَّة الإماميَّة القادِمة من غُبار التاريخ، وما تبع ذلك من خرابٍ، ودمارٍ، وشتاتٍ، وحُرُوبٍ، وتشرُّدٍة، وتشرذُمٍ، وتمزُّقٍ لنسيج اليمن واليمنيين حتَّى هذه اللحظة.


كان سُقُوطُ (قناة اليمن)، وتوقُّفُها عن البث حدثًاً مفصليَّاً، وسُقُوطاً للدٍّولة، ولكبرياء اليمنيين، ولنضالاتهم، وكرامتهم على مدى عقودٍ مضتْ، وإعادة إنتاج لدولة الكهنوت الإمامية التي أسقطتها ثورةُ 26 سبتمبر 1962م في يومٍ لم تصنعْ أشعَّتَه شمسُ الضُّحىة، بل صنعه اليمنيُّون بتضحياتٍ جِسامٍ.


في يوم 19 سبتمبر من العام 2014م أدركتُة، وزُملائي في التلفزيون خُطورةَ الوضع الذي نمرُّ به مع ورُود الأخبار إلينا بالتَّقدُّم السَّريع لميليشيات الحُوثي نحوَ صنعاءَ دُوْنَ أن توقِفَ أيُّ قوَّةٍ تقدُّمَها، خاصَّةً بعدَ استشهاد العميد حميد القُشيبية، وسُقُوط اللواء 310 الذي كان يقودُه، وبالتالي سُقُوطُ مُحافظةِ عمرانَ تحتَ سيطرتهم.


كُنَّا قبلَ ذلك بأيَّامٍ واستشعارًا منا بالمسؤوليَّة، ولقُرب مبنى التلفزيون في (الجُراف) من جولة عمران، قد قمنا بنقل عربة النقل الخارجي من المبنى الرَّسميّ إلى دار الرئاسة؛ لأنَّها كانتْ بمثابة أستديو مُتنقِّلٍ يُمكنُ استخدامُه في أيّ ظرفٍ، ومن أيّ موقعٍو.. ودار الرئاسة في السَّبعين يُفترضُ – من وجهة نظرنا – أن تكُونَ هي الأكثرَ أمنًا وأمانًا !!.


هُنَاكَ كان في استقبالنا وزيرُ الدفاع اللواء مُحمَّد ناصر أحمد، وقمتُ وزُملائي بوضع العربة التلفزيونيَّة بحسب ما حُدِّد لنا في نفقٍ كبيرٍ مُحصَّنٍو، وبه مجمُوعةٌ كبيرةٌ من الغُرف، بعضُها مُصمَّمٌ على شكل أستوديوهات، وأيضًا غرفٍ أخرى بها مُعدَّاتٌ، وأدواتٌ طبيَّةٌ لكن هذا ليس موضُوعَنا.. وضعنا "أيقونتَنا" الأثيرةَ، وغادرنا الموقعَ الكبيرَ المُخيفَ الذي عرفناه للمرَّة الأولى والأخيرة.


في الوقت ذاته طلبتُ من زُملائي المُتواجدين في مبنى التلفزيون البقاءَ في المبنى على أهبَّة الاستعداد، وتنفيذَ الخارطة البرامجيَّة و الإخباريَّة اليوميَّة كالمُعتاد، مع التركيز على البرامج والأناشيد الخاصَّة بمُناسبة عيد ثورة 26 سبتمبر التي كانتْ على الأبواب.


هُناك من الزُّملاء من بقي في المبنى – وهم الغالبيَّة العُظمى – وهُناك مَن اعتذر؛ نظرًا لتقطُّع عددٍ من الطرقات في العاصمة، أو خوفًا ممَّا يجري.. وحاولنا في برامجنا المُباشرة استضافة عددٍ من القادة السِّياسيين، والصَّحفيين والحقوقيين هاتفيًا.


فالبعضُ تحدث إلينا، فيما البعضُ سكتَ عن الكلام المُباح، وأغلق محمُولَه، خاصَّةً في برنامج (شُؤون البلد) اليومي المُباشر الذي خصَّصناه لهذا الحدث، وقدَّم حلقةَ تلك الليلة الزميلُ جميل عزالدين الذي كان يشغلُ منصبَ نائب رئيس قطاع قناة اليمن آنذاك، ورئيس القطاع حاليًا.. وكان يُناشدُ ويُكرِّرُ المُناشدةَ للحُوثيين – مُباشرةً وعلى الهواء – بعدم قصف المبنى الذي كان به نحو 200 مُوظفٍ مدنيٍّ من مُختلف التخصُّصات التلفزيونية.


في تلك الليلة، كان قصفُ الحُوثيين على التلفزيون قد اشتدَّ ومن ثلاث جهاتٍ، وحينها اتصل بي وزيرُ الإعلام الأستاذ نصر طه مُصطفى، وقال لي: إنَّ الحُوثيين يشتكُون أنَّ قذائفَ تُطلقُ عليهم من كتيبة حماية التلفزيون، وأن عليَّ ابلاغَ قائد الكتيبة بذلك.


وأخبرته أنا – من جهتي – بما كان يحدثُ فعليًا، وهو أن كتيبةَ الحماية تقومُ فقط بالرَّد على مصادر النيران؛ دفاعًا عن التلفزيون، وعن العشرات من المُوظفين العاملين بداخله، وإنَّ الحُوثيين هُم مَن يُهاجمُ التلفزيونَ من أكثر من جهةٍ.


وشهادةٌ للتاريخ: فإنَّ كتيبةَ الحماية قامتْ بواجبها على أكملِ وجهٍ في الدِّفاعِ عن التلفزيون، ومُوظفيه.. كانتْ حِدَّةُ القصف قد ازدادتْ، خاصَّةً من اتجاه جولة عَمران، واستهدفتْ بدِقَّةٍ مبنى المُولِّدات الكهربائية، ما أدَّى إلى توقُّفها عن العمل.


وحاولنا تلافي انقطاع البث بصُورةٍ سريعةٍ بتشغيل مُولدٍ كهربائيٍّ مُتنقِّلٍ خاصٍّ بعربة النقل الخارجي الصَّغيرة التي كانتْ في المبنى، وأطفأنا كافَّة الاضاءات والأستوديوهات، والمُكيِّفات، وخصَّصنا الكهرباء فقط لأستديو البث التلفزيوني، خاصَّةً وأن قُدرةَ هذا المُولِّد محدُودةٌ للغاية.


ومع مُرُور الوقت، أدركنا أكثرَ فأكثرَ خُطورةَ الموقف وتطوُّرَه، مع ارتفاع أصوات القذائف التي وصلتْ إلى مواقعَ مُختلفةٍ في مَجْمَعِ التلفزيون.. عندَها قرَّرتُ الاتصالَ المُباشرَ بالأخ رئيس الجُمهُوريَّة "عبدربه منصور هادي"؛ لاطلاعه على الموقف، وطلب الدَّعم والإسناد، والعمل على توفير مُولِّدٍ كهربائيٍّ بصُورةٍ عاجلةٍ حتى لا يتوقَّفَ البثُّ الرَّسميُّ للدَّولة.


صُمُودٌ في وجه الطَّاغُوتِ والبارُود


كنتُ أديرُ العملَ من صالة الاجتماعات المُلحقة بمكتبي الذي بدأتِ القذائفُ تصلُ إليه.. زحفتُ على رُكبتي في ظلامٍ دامسٍ حتَّى وصلتُ إلى الهاتف الأرضي على مكتبي، واتصلتُ بـ"تحويلة" منزل الرَّئيسِ طالبًا الحديثَ إليه ، فرَّد عليَّ مُباشرةً، وأطلعتُه على خُطورةِ الموقف الذي نحنُ فيه فقال لي: أنَّه أمر بدعم حماية التلفزيون بكتيبةٍ مُدرَّعةٍ، وأنه سيأمرُ "مُؤسَّسةَ جُمعان" بسُرعة تزويدنا بمولدٍ كهربائيٍّ إسعافيٍّ.


بالطبع، بقينا في انتظار القُوَّة المُدرَّعة التي لم تصلْ، لكن قيل لي لاحقًا إنَّه تمَّ بالفعل إرسالُ مُولِّدٍ كهربائيٍّ إلى التلفزيون، غيرَ أنَّ القوَّةَ الحوثيةَ المُسيطرةَ على جولة عَمران – القريبة من مبنى التلفزيون – استحوذتْ عليه.


بعدَ مُرُورِ وقتٍ ليس بالقصير، أعدتُ الاتصالَ بالأخ الرَّئيسِ وأبلغتُه أنَّه لم تصلْ أيُّ قوَّةٍ لدعم الحماية، كما لم يصلِ المُولِّدُ الكهربائيُّ، وأنَّ الوضعَ يزدادُ حرجًا، وقلقًا على أرواح كُلِّ مَن في المبنى، فطمأنني أنَّ الدَّعمَ في الطريق إلينا.


بعدَ ذلك، وأثناء تحرُّكي بينَ المبنيين الرئيسيين للتلفزيون القديم والجديد؛ لتفقُّد الوضع والاطمئنان على البث، وجدتُ – ونحنُ نكابدُ القصفَ والظلامَ – أنَّ عشراتٍ من الجنُود بزيٍّ يختلفُ عن زي جنُود الحماية، يحملون أسلحتَهُمُ الشَّخصيَّةَ، وقد وضعوا مُضادَّاً أرضيَّاً أمامَ بوابة مبنى التلفزيون، ولم يكُنْ موجُودًا من قبلُ.


ورغمَ كلِّ الإحباطات المُحيطة بنا، لم يتسلَّلِ الخوفُ، أو الوَهَنُ إلى قلوبنا، ولم تفترْ عزائمُنا بالمُطلق، لكن شُعُورُنا الأعمقُ – أنا ورفاقي – كان هو الخُذلانَ، ونحنُ نقومُ بواجبٍ وطنيٍّ في الدِّفاعِ عن الوطن والجُمهُوريَّة، من خلال الحفاظ على استمرار بث التلفزيون الرَّسميّ للدَّولة.


في الأثناء جاءني عددُ من الزُّملاء وقد أخذ منهُمُ الإرهاقُ ، والسَّهرُ ، والجُوعُ كلَّ مأخذٍ، وأخبروني بحاجتهم إلى الطعام، فطلبتُ منهم كسرَ قفل "بوفية" التلفزيون التي لم نجدْ فيها سوى بعض الماء، والعصائر والبسكويت، لكنه كان بمثابة غنيمةٍ كبيرةٍ لإسكات الجُوع.


استمرَّ القصفُ بينَ حينٍ وآخرَ، واستمرَّ البثُّ التلفزيونيُّ.. وحقيقةً وشهادةٌ للتاريخ - لم يطلبْ أحدٌ منَّا - على أيّ مُستوًى من مُستويات اتخاذ القرار في الدَّولة البقاءَ في التلفزيون، والعملَ على استمرار البثّ، كما لم يطلبْ أحدٌ منَّا أيضًا المُغادرة !!.


أطلعتُ زُملائي الذين رافقوني في تلك اللحظات العصيبة – ونحنُ في صالة الاجتماعات التي نُديرُ العملَ منها – على حقيقة الموقف الذي نحنُ فيه، وعلى وقع أصوات القذائفة ، وأزيز الرصاص. . وأكَّد الجميعُ البقاءَ والاستمرارَ في البث؛ باعتبار ذلك واجبًا وطنيًا، واستحقاقًا مهنيًا وأخلاقيًا، مُؤكِّدين أنَّ إسكاتَو، أو سُقُوطَ التلفزيون بيد الميليشيات هو سُقُوطٌ للدَّولة، ولآخرِ رمزٍ من رُمُوز السِّيادة لها.


أخذ منا السَّهرُو، والإرهاقُ، وعدم توفر الطعام ليومينِ مُتتاليينِ مداه، وعندَ فجر يوم 20 سبتمبر قررتُ أنا، وزميلي خالد عليَّان - الذي كان يشغلُ مديرَ عام البرامج - الخُروجَ من المبنى إلى منزلي؛ لإحضار الطعام، وتغيير الملابس، وهذا ما حدث بالفعل، لكن عِنْدَ مُحاولة العودة إلى المبنى كان الحصارُ قد أطبق عليه.


لقد كانتْ (قناةُ اليمن الفضائيَّة) قائمةً على رأسِ جبلٍ حصينٍ تحميه كتيبةٌ مُدجَّجةٌ بالسِّلاح، وكانتْ في حصنها المنيع تبثُّ يوميًا إلى الناس نبضَ الحياة والأحداثَ الجارية.. وعندَما جاء الحوثيُّون، وحاولوا اقتحامَ المبنى، كان من الصَّعب عليهم اختراقُه؛ نظرًا لتحصيناته وموقعه الإستراتيجي.


ولقد كانتِ الكتيبةُ، وقياداتُها في حالة استعدادٍ قصوى، تردُّ على مصادر النيران، وتحصلُ على إمداداتٍ من الذخيرة والتموين تتيحُ للمبنى أن يصمدَ شُهُورًا.. ولم يكُنْ أحدٌ يتوقَّعُ أن يسقطَ خلال ايام، إذ كانتْ مكانتُه الدِّفاعيَّةُ ، وحمايتُه عاليةً.


لكن للأسف الشَّديد وقع ما نسميه نحنُ خُذلانًا، أو صُدور توجيهاتٍ قاصرةٍ، فعندَما انقض الحوثيون اخيرا على المبنى، كان انقضاضُهُم قد جوبه بمُقاومةٍ محدودة، وصعدُوا إلى (التَّبَّة)، مُطلقينَ (صرخاتِهم)، ويلاحقُون المُوظفين، ويرقصُون فرحًا باقتحام مبنى فضائية اليمن، في مُحاولةٍ مُتعمَّدةٍ لإسكات صوت الدولة.


وبحسب خُطة الطوارئ - التي كُنَّا قد رسمناها أنا وزُملائي - غيَّرنا اتجاهنا من مبنى التلفزيون في الجُراف نحوَ إدارة التوجيه المعنوي في ميدان التحرير؛ للاستفادة من الأستديو التلفزيوني الموجُود لديهم في بث قناة اليمن من هُناك، حَتَّى لا يسقطَ "صوتُ الدَّولة وصُورتُها، وهيبتُها".


هكذا كانتْ عزائمُنا، وهكذا كان إيمانُنا الرَّاسخُ بذلك وهُناك، في مبنى التوجيه المعنوي بالتحرير، واجهتنا أكثرُ من مُشكلةٍ:


أوَّلُها عدمُ توفُّر الطواقم الفنيَّة بالأعداد المُناسبة، وعدمُ جاهزيَّة الأستديو بالخلفيَّة المعرُوفة لأخبار قناة اليمن، والمُشكلةُ الأكبرُ كانتْ في "التردُّد الصَّاعد" من هُناك إلى النايل سات، وهو يختلفُ بالتأكيد عن التردُّد الذي كُنَّا نبثُّ به من مبنى التلفزيون في الجُراف.


لكن ما رفع من معنويَّاتِنا هو تداعي عددٍ لا بأسَ به من الزُّملاء الفنيين، وطواقم الأستوديوهات، وحتى بعض المُحرِّرين والفنيين، للوصُول إلى مبنى التوجيه المعنوي؛ للبدء بالبثِّ من هُنَاكَ إذا ما قامتِ الميليشيات بالسَّيطرة على المبنى الرَّسميّ.


قمتُ على الفور بالتواصُل مع شركة "النايل سات" وإبلاغهم بحقيقة الموقف الذي نحنُ فيه ، لكنَّهم كانوا بحاجةٍ إلى مُراسلاتٍ رسميَّةٍ، فهذا في النهاية بثُّ قناةٍ رسميَّةٍ للدَّولة.


قصَّةٌ يطولُ شرحُها، ولا يتَّسعُ الحيِّزُ هُنا لتفصيلها، لكن في نهاية الأمر وافقوا على استقبال التردُّد الصَّاعد من جهاز بث التوجيه المعنوي بدلًا من التردُّد المُعتاد لاختلاف جهازي البث.


ولا بدَّ هُنا من تقديم الشُّكر، والامتنان للإخوة المصريين في النايل سات على تقديرهمُ الموقف الصَّعب الذي كنَّا نعيشُه في تلك الأوقات العصيبة والمشحُونة بالتوتر والقلق والخوف من المجهُول.


وبجهُود الفنيين من قناة اليمن، بدأتْ ملامحُ أستديو الأخبار في التشكُّل كنُسخةٍ مُطابقةٍ لأستديو الأخبار في قناة اليمن من مقرِّها الرَّئيسيّ، حتَّى لا يشعرَ المُشاهدُ بأيّ فارقٍ عِنْدَ البث، وساعدنا على ذلك قيامُنا بطباعة "البنر" خلفية الأستديو في محلٍّ قريبٍ من التوجيه المعنوي.


وعندَما أصبحنا جاهزين فنيًا، صعدنا بالبث التلفزيوني من مبنى التوجيه، بعد أن تأكَّدنا من سُقُوط مَجْمَع التلفزيون في الجُراف عمليًا تحتَ السَّيطرة النَّاريَّة الكاملة للميليشيات الحُوثيَّة، التي استماتتْ للسَّيطرة على هذا الجهاز الإعلامي المُهم، لكنَّها لم تستطعْ حينَها البثَّ منه.


ثقلُ المسؤوليَّةِ الوطنيَّةِ واستمرارُ البث


في تلك الليلة قدَّم الأخ خالد عليَّان وزميلُه خليل القاهري نشرةَ الأخبار، ثم قدَّما البرنامجَ المُباشرَ المسائيَّ (شُؤون البلد) بكُلِّ عنفوانٍ وتحدٍّ، وكأننا نبثُّ من داخل المبنى الرَّسمي للتلفزيون، وتمَّ فيه تسميةُ الأشياء بمُسمَّياتها، لم أشعرْ في حياتي قط بثقل المسؤوليَّة ، كما شعرتُ بها في تلك الليلة !!.


كانتِ المسؤوليَّةُ كبيرةً، وكبيرة جدا، وذاتَ أبعادٍ مُتعدِّدةٍ، وكنتُ في قرارة نفسي أشعرُ أنَّ عيونَ، ومشاعرَ كلِّ اليمنيين، وكُلِّ مَن يهمُّهُم أمرَ اليمن، مُعلَّقةٌ بشاشة (قناة اليمن) التي كُنَّا قد أطلقنا شعارَها الرَّسميَّ قبل ذلك بأنَّها (قناةُ كلِّ اليمنيين).


كان المُشاهدُ اليمنيُّ يتابعُ القناةَ؛ لمعرفة مآلات الأوضاع، وتحديدًا في العاصمة صنعاء، وفي خضمِّ الانشغال بما نحنُ فيه، تلقيتُ من جهازيَ المحمُول اتصالًا من قناة الجزيرة الإخبارية للحديث المُباشر عمَّا كان يحدثُ للتلفزيون والعاملين فيه آنذاك، وتحدثتُ إليهم لحوالي خمس دقائقَ (مرفق التسجيل هنا).


لم نتوقَّفْ، ولم نستسلمْ ، ولم نخفضْ – في تلك الليلة – حتَّى سقف التحدِّي للميليشيات في الخطاب الإعلامي لقناة اليمن ، كما طلب البعضُ منَّا ذلك صراحةً، ورغمَ اعتذار الكثير من الزُّملاء عن عدم الالتحاق بنا في مبنى التوجيه للظرُّوف الأمنية الصعبة إلا أنَّنا صمدنا، وواصلنا البثَّ.. فكيف لنا أن نهدأ، أو نستكينَ ونحنُ نرى الوطنَ، والدولةَ تُذبحُ بسكينٍ مثلُومٍ، من الوريد إلى الوريد؟!.


استمرَّ بثُّنا التلفزيونيُّ من مبنى التوجيه المعنوي دُوْنَ توقُّفٍ حتى عشيَّةَ 21 سبتمبر المشؤوم، حين أخبرني أحدُ المسؤولين في التوجيه المعنوي أنَّ الحُوثيين تقدَّمُوا، واحتلوا مبانيَ مجلسي الوزراء والنُّوَّاب، والقيادة العامَّة للقوَّات المُسلحة – دُوْنَ إطلاق ولو حتى رصاصةٍ واحدةٍ – وهي مبانٍ مُتقاربةٌ، تقعُ في مُربَّعٍ واحدٍ تقريبًا يمتدُّ من ميدان التحرير إلى أطراف قاع العلفي.


لكن مبنى القيادة العامَّة تحديدًا لا يفصلُه عن مبنى التوجيه المعنوي - الذي كنا فيه - سوى سُورٍ صغيرٍ، اي أنَّهُم قريبًا سيكُونون داخلَ مبنى التوجيه، حيثُ نحنُ مُتواجدُون، ونبثُّ رسائلَنا الإخباريَّةَ من هُنَاكَ !!.


قمتُ من فوري مُتوجِّهاً إلى حيثُ يعملُ الزُّملاءُ في عملية البث التلفزيوني، وشكرتهم على جُهُودهم المخلصة، واستبسالهم في العمل، وأخبرتهم بخُطُورة الموقف وأنَّه – حفاظًا على سلامة أرواحهم – علينا أن نُغادرَ هذا الموقعَ بعدَ أن أدينا واجبَنا الوطنيّّ والمهنيَّ على النَّحوِ الأوفى واجدها هنا سانحة للتعبير عن الامتنان بلاحدود لكل الزملاء من دون تحديد الاسماء لكثرتهم والذين صنعوا هذه المأثرة الإعلامية بكل وطنية ومهنية واخلاص.


وقبلَ أن أنهيَ كلامي لهم، سمعنا أصواتَ زخَّاتٍ مُتتاليةٍ من رصاص أسلحة الكلاشينكوف من حولنا، ورافق ذلك دخول "أطقمٍ" عسكريَّةٍ تابعةٍ للحُوثيين إلى ساحة مبنى التوجيه المعنوي، وسمعتُ صوتَ شخصٍ يُردِّدُ اسمي بصوتٍ عالٍ، ويطلبُ القبضَ عليَّ.


استغللتُ على الفور فُرصةَ انشغالهم بالسَّيطرة على المباني وبعملية وضع شعار "الصَّرخة" المطبُوع على "استنداتٍ" جاهزةٍ في مواقعَ مُتفرقةٍ من ساحة التوجيه المعنوي، وغادرتُ المبنى مع عددٍ من الزُّملاء من البوَّابة الخلفيَّة التي تقعُ بالقُرب من برج الاتصالات في التحرير، بعدَ أن وضعنا على جهاز البث شريطًا به أغانٍ وأناشيدُ وطنيَّةٌ خاصَّةٌ بعيد ثورة 26 سبتمبر، كنتُ قد استلمتُه قبلَ ذلك بيومينِ من قناة عدن.


وبهذا، سقط ما تبقَّى لنا من صوتٍ، وما تبقَّى من مُحاولة استمرار البثّ الرَّسميّ للتلفزيون.. لكن بسُقُوط قنوات الدَّولة تحتَ سيطرة الحُوثيين في صنعاء، لم يسقطْ فقط "صوتُ الدَّولة"، بل سقطتِ الدَّولةُ اليمنيَّةُ التي لاح فجرُها في 26 سبتمبر 1962م.


خِتامًا.. وهكذا بعدَ مُرُور 11 عامًا على ليلة سُقُوط التلفزيون ما تزالُ تفاصيلُ تلك الليالي تسكنُ الوجدانَ والذاكرة كأنَّها حدثتْ في الأمس القريب، فلم تَكُنْ المعركة يومهاومعركةَ ميكروفونٍ، وكاميرا، بل كانتْ معركةَ وطنٍ وكرامةٍ، تحوَّلتْ فيها مهنةُ الإعلام إلى فعلِ مُقاومةٍ، وتحوَّلتْ شاشةُ قناةِ اليمن إلى آخر نافذةٍ يتسلَّلُ منها الضَّوءُ.


قد سقط المبنى، وسقطتْ معه رمزيَّةُ الدَّولة، لكنَّ شيئًا وجُوديَّاً ماكان له أن يُسقطَ.. إنَّه الإيمانُ العميقُ بأنَّ الكلمةَ أصلُ الحياة، قادرةٌ على أن تعيشَ أطولَ من إرهاب الرَّصاص، وأنَّ الصُّورةَ يُمكنُ أن تكُونَ أشدَّ وقعًا من الصَّاروخ والمدفع.


وإن كان التاريخُ قد سجَّل أن العاصمةَ صنعاءَ قد سقطتْ في أيدي المليشيا في ذلك اليوم، فإنَّه قد سجَّل أيضًا أنَّ رجالَ الإعلام وقفوا هُنالك ليقولوا للعالم: هذه هُويَّتُنا، وهذا صوتُنا، وهذه جُمهُوريَّتُنا، ولن تُمحى من ذاكرتنا مهما حاولتِ المليشيات أن ترفعَ نبرةَ أصوات البنادق.


وبينَما تُبثُّ القناةُ اليمنيَّةُ الفضائيَّةُ حاليَّاً من خارج الوطن - وهو ليس الخيار الامثل وإن كان المتاح -، ويقبعُ مبناها في صنعاءَ أسيرَ خطابٍ دخيلٍ، يبقى في ضمير الوطن وعدٌ لم يكسرْ ولن: أن يظلَّ الإعلامُ الحُرُّ منارةً، وأيقونةَ وجُودٍ، وأن تظلَّ الكلمةُ الصَّادقةُ الشَّريفةُ سلاحًا مُؤثراً، وأن تظلَّ أهدافُ ثورتي 26 سبتمبر، و14 أكتوبر رُوحًا تسري في شرايين اليمنيين جيلاً بعدَ جيلٍ.


* عدن - 18 سبتمبر 2025م