آخر تحديث :الأحد-26 أكتوبر 2025-03:16م

فتحي بن لزرق… القلم الذي صار جبهة شرف لليمنيين صلاح الطاهري

السبت - 27 سبتمبر 2025 - الساعة 07:16 م
صلاح الطاهري

بقلم: صلاح الطاهري
- ارشيف الكاتب


في زمنٍ غدت فيه الحقيقة عملةً نادرة، والكلمة جريمةً تُعاقَب بالحديد، ويُعامل فيها الصحفي كما يُعامل الخارج عن القانون، يطلّ علينا اسم يشبه الوطن، اسمه فتحي بن لزرق. رجل لم يساوم على ضميره، ولم يبع قلمه في مزادات الولاء والانحناء، ولم يستبدل الحقيقة بوهم، ولا الكرامة بمقعد في صالة النافذين.


فتحي ليس مجرد صحفي يسطر أخباراً في أعمدة جريدة، بل شاهد على مرحلة كاملة، وعلى مدينة تنهكها الخيبات وتُغتال فيها الحرية برخصة رسمية وتهم جاهزة. لم يُقتحم مكتبه ولم يُعتقل لأنه أخطأ، بل لأنه قال الحق في زمن صار فيه قول الحق أعظم خطايا البشر.


فتحي بن لزرق ليس صحفي عدن فحسب، بل صحفي اليمن كله. هو صوت الشمال كما هو صوت الجنوب، حاضرٌ في معاناة تعز كما في آلام الحديدة، وفي أوجاع مأرب كما في نبض عدن. صوته الوطني يتردد في كل شبر من هذا البلد الممزق، كأنه مرآة لوجع اليمنيين جميعاً، لا يفرّق بينهم لون راية أو حدود جغرافيا.


في وطنٍ يذبحه الحرب، يصبح الصمت تواطؤاً والكلام مقاومة، وفتحي اختار المقاومة لا بالبندقية، بل بالقلم. كتب عن الفقراء الذين يُجبرون على دفع ما لا يملكون، وعن الأرامل اللواتي يمررن من النقاط وكأنهن أعداء، وعن الطرقات التي تحولت إلى مصائد جباية، وعن القانون الذي صار مطيّةً بيد القمع. كتب، فارتعبوا. كتب، فحاولوا إسكاته، لكن محاولاتهم خابت وبقي صوته يتردد.


لم يفهموا أن الاعتقالات لا تكسر الأفكار، وأن الحديد لا يخرس القلوب الحرة. كانوا يظنون أنهم أسكتوه، فإذا بكلماته تملأ الشوارع والقلوب: الحرية ليست ترفاً، والكرامة ليست شعاراً، والصحافة ليست خادمة للسلطة بل حارسة للناس.


فتحي لم يكن صحفياً عادياً؛ كان حالة وعي ورمزاً لمهنة وُجدت لتكون صوتاً للناس لا صدى لأرباب المصالح وتقاسم النفوذ. لم يحتج مظلة حزب، ولا حماية ممول، ولا هتافات حشود غوغائية؛ كان يكفيه ضميره المهني وإيمانه بأن الصحافة آخر أسلحة الشعب السلمية في مواجهة الطغيان.


في زمن يُكافأ فيه التطبيل بالمناصب ويُجازى فيه الصدق بالقيود، يبقى فتحي عنواناً لصحافة الضمير. اعتقاله لم يكن عقوبة لشخص، بل إعلان حرب على ما تبقى من شرف هذه المهنة.


إن الوقوف مع فتحي اليوم، ليس وقوفاً مع فرد، بل مع المعنى ذاته: معنى الحرية، وجوهر الكرامة، وصوت الوطن الذي نحلم به. الإفراج عنه لا يطوي القضية، بل يفتح باب الأسئلة: كم من فتحي ما زال خلف الجدران؟ كم من قلم ينتظر دوره على حافة الكسر؟


لقد خرج فتحي من الحجز، لكن الصحافة لم تخرج بعد من زنزانة الخوف. خرج جسده، وبقيت رسالته أمانة في أعناقنا: أن نكتب، أن نصرخ، أن نحلم بوطنٍ لا يُعتقل فيه الصدق، ولا تُكمم فيه الأفواه.


فتحي بن لزرق لم يكن مجرد معتقل رأي؛ كان امتحاناً صعباً لضمير هذا البلد، وجرس إنذار لقياس ما تبقى لنا من حرية.


فلا تجعلوا خروجه خاتمة الحكاية… بل بداية زمنٍ جديد تُحمى فيه الكلمة لا تُقمع، وتصان فيه الأقلام التي لا تُشترى، لأن بها وحدها تُكتب أوطان حرة حقيقية.