لا أعلم هل هو أمر جيد أم سيئ، لكن المؤكد أن شيئًا ما تغيّر في داخلي . تغيّر في طريقة تفكيري، وفي نظرتي للأشياء، وحتى في أسلوب الحياة .
بالأمس، كان من المستحيل أن أتناول صحن سلطة بالطماطم، واليوم آكل الطماطم نِيئًة، بلا تقطيع ولا إضافات. بالأمس، لم أحتمل النظر إلى رجل من المناطق الشمالية وانظر اليهم بازدراء، واليوم أنظر بعين مختلفة تمامًا.
بالأمس، كنت أعتبر أغاني الفنان أحمد قاسم مجرّد ألحان كئيبة وحزينة خالية من الفرح اللحجي، أما اليوم فأجد نفسي أدندن بها وكأنها جزء من ذاكرتي العاطفية
“من كل قلبي أحبك يا بلادي يا يمن
وأفديك بروحي ودمي وأولادي يا يمن…
ياااا بلادي يابلادي يابلادي يايمن …
قد تبدو التفاصيل بسيطة، لكنها في الحقيقة شواهد على تحول أكبر. فمن انفصالي حتى النخاع لاارى اللاما اريد ان اراة ، صرت اليوم إنسانًا لا تهمه كثيرًا شعارات الانقسام ولا جدران الجغرافيا، بقدر ما يهمه أن يظل الوطن قائمًا فوق أقدام أبنائه
لا أحد يزايد على وطنيتي ولا على حبي لليمن، لكنني صرت أؤمن أن بعض الآراء تحتاج إلى مراجعة، وبعض القناعات تستحق أن تُهذّب، لأن الأمر أوسع من مجرد موقف سياسي أو نزعة مناطقية؛ إنه ببساطة النضوج الفكري
أتذكر والدي، رحمه الله، الذي قاتل مع الانفصاليين في صيف 94 ضد ما سُمّي حينها بالشرعية. لم ينل منهم منصبًا ولا راتبًا، بينما الشرعية التي حاربها منحت له بعد الحرب وظيفة وراتبًا لأول مرة في حياتة . كنت أجادله ممازحاً : “لماذا تقاتل مع من لم يعطوك شيئًا؟ بينما الآخرون منحوك ما لم تحلم به؟”
فكان جوابه حاسمًا: “أنا لا أقاتل من أجل المال.”
احترم رأية واعتبرة وسام على صدري لقد كان يقاتل عن قناعة وعاطفة لكن بسبب موقفي المناهض تحولت مائدة الطعام الى كعكعة توزع حسب الانتماءات والولاءات . صدور الدجاج، الألذّ والأكثر امتلاءً، تذهب إلى الابن الأكبر وهو المطبل لوالدي ومعزز لاارأة ومعتقداتة . العصيد الساخن، والسليط كلها تصطف أمام “الاصغر”. أما أنا، فقد رُسم قدري أن أتناول الفتات
والآن، مع مرور السنين، صرت أستوعب أكثر. لم يعد يعنيني أن أُسمّى انفصاليًا أو وحدويًا بقدر ما يعنيني أن أكون يمنيًا في المقام الأول. فالوطن مساحة واسعة تتسع لاختلافنا وتناقضاتنا
النضج الحقيقي أن تتغير دون أن تفقد جوهرك، أن تتبنى قناعات أعمق من مجرد “مع” أو “ضد” ببساطة أن تكتشف أن الوطن أوسع مما كنا نظن
قد أكون تغيرت، وربما نضجت، لكنني على يقين أن ما تبقى من العمر يستحق ألتعايش مع كافة الاطياف ، وبقلب مفتوح. لم أعد أحمل سيف الانفصال ولا راية الوحدة، بل أحمل شيئًا أثمن: قناعة أن اليمن، كيفما كان، هو بيتي الكبير الذي لا أملك سواه