مجيب الرحمن الوصابي
أربعةُ أشهرٍ عِجاف، والناسُ تتنفس من رئةٍ مثقوبة، وأصواتُ الموظفين، التي هي نبض الحياة، كبلها صمتٌ أشدُّ قسوةً من الجليد... صمتٌ طاغوت لا يُجيدُ إلا الرقص على أوتار الجوع والمرض والحرمان. هل سمعتم يوماً عن قياداتٍ تتسابقُ لانتزاعِ الرمقِ الأخيرِ من جسدِ وطنٍ أنهكتهُ الحروب؟ هؤلاء هم، يقفون على قمة جبلٍ من الغنائم، يلوحون بأيديهم الملوثة بالنهب، وكأنّهم يحيّون جموعاً من الأشباح التي تُدعى "مواطنين".
يا له من مشهدٍ مأساويٍ بامتياز، تُمثّلُ فيه القياداتُ أدوارَ البطولة في مسرحيةِ "التعنُّت الأعمى". كلٌّ يتمترسُ خلفَ خندقِه العفن، يُمسكُ بخنجرِ الموارد المنهوبة، ويصرخُ بأعلى صوتٍ: "الرواتب مسؤوليةُ الحكومة!". وكأن الحكومةَ كائنٌ فضائيٌّ هبطَ من كوكبٍ آخر، لا علاقةَ له باللصوصِ الذين سدّوا كلَّ منفذٍ للرزق... لقد وصل بهم الحالُ إلى التنافسِ على أشدِّ الأعذار وقاحةً، وكأن الأمرَ لعبةُ أطفالٍ لا مصيرَ شعبٍ يتضورُ جوعاً.
وهنا تكتمل حلقةُ السخرية المُرّة؛ إذ قد نُغالطُ أنفُسَنا ونُبرِّرُ بأنَّ الأغنياءَ الجُددَ، الذين صعدوا على سلم الجماجم والأرزاق المنهوبة، يستحقونَ خيراتِ الحربِ ومكاسِبَها، بسببِ "نضالِهِم المزعوم" و"عبقريَّتِهم في فنِّ النهب"! يا لوقاحةِ القدر!
فهل نحن، أيها الجَوعَى الفقراءُ، نستحقُ كلَّ هذا الحرمان؟ أيها التاجرُ الجديدُ بأقواتِنا ودمائِنا، يا حديثَ العهد بالنِّعم: اذهبْ مع أمراءِ الحرب، فلا تبْنِ قصرَك في حيّنا. ارحلوا عنّا! فكونُ المرءِ غنيًا هنا، يعني الابتهاجَ والتنعُّم بما ليس عند الناس؛ لأنّه انتزعَ من يدِ الناسِ أكثر ممّا جَمَعَ لنفسِه، وهي المصادرةُ السادِيَّةُ التي تجعلهم يستمتعون بمنظر كروشهم المنتفخة وسط بطون الناس الخاوية.
لقد أثمرت سنواتُ الحربِ عن شيءٍ واحدٍ مؤكد: سقوط الطبقة الوسطى وانزلاق الأغلبية في حضيضِ الفقر... هذا الفقرُ ليس مجرَّدَ خلوِّ جيب، بل هو حرمانٌ من الحياة! إنّه المَذلَّةُ والإذلال المتجسِّد في العجز عن تعليم الأطفال والعلاج، بل حتى الخجل من الظهور في الجموع. وحين سألتُ بعض المعلمين الأفاضل عن حالهم، جاؤوا لي بصورةٍ أشدُّ قسوةً من كل وصف: لقد صاروا يقتسمون اليوم وجبةً واحدةً بمرارة، يتشاركون فتاتَ العيش ليصمدوا، بينما الثروات تُكدَّسُ بلا حسيب أو رقيب.
والمفارقةُ القاتلةُ تكمنُ في ذاكرةِ المعلِّمِ الذي أفنى عمره، وهو اليوم براتبٍ لا يساوي نصفَ ما يتقاضاهُ تلميذه المجنَّد. هذا المعلّمُ يرى نفسَه خائناً للوطن، ولا يرى أنَّ الوطن قد خانه، أو بالأحرى، خانهُ الثوارُ الذين تحوّلوا إلى تُجّار. فهل ننتظرُ معجزةً؟ هل ننتظرُ أن يصحو ضميرُ مسؤولٍ أو ثائرٍ سابقٍ فجأةً، كزهرةٍ تنبتُ في صخرٍ أصمّ؟ يا للحماقةِ المُوجعة! الضميرُ الذي يبيعُ الوطنَ بالفتات، أُطلقَت عليه رصاصةُ الرحمةِ. لا ترجوا صحوةً، فالنومُ العميقُ على حريرِ النهب ألذُّ عندهم من يقظةٍ تُطالبُهم بالعدل.
لن تتدفقَ الأموالُ إلى البنكِ المركزيّ، ولن تُصرفَ الرواتبُ في قادمِ الأيامِ والأشهر، إلا إذا كُسِرَتْ قيودُهم الفولاذيّة، وأُجبِروا على دفعِ ثمنِ خيانتهم. رَبِّي عَـوِّضِ الثّائر... في جنةٍ أخرى، لا في وطنٍ خانهُ ثائروه ووارثوه.
مجيب الرحمن الوصابي