مجيب الرحمن الوصابي
لم تكن رحلة الرحالة الإيطالي لودوفيكو دي فارتيما إلى اليمن عام 1510م مجرد مدوّنة استكشافية، بل كانت وثيقة تأسيسية لـ (الخطاب الاستعماري الكولونيالي) ففي الوقت الذي كانت فيه القوى الأوروبية تخطط لمدّ نفوذها العسكري والتجاري عبر البحر الأحمر، كان فارتيما – الذي لم يكن يُنظر إليه ببرود كـ جاسوس للبرتغاليين [1] – يسطر المشهد الثقافي والروحي لهذا الغزو ويعده بما لفقته يداه... لقد كان قلم الاستعمار المبكّر، الذي مهمته الأولى هي توثيق "صورة الشرقي اليمني كما يشتهيها الغرب".
إن نجاح كتابه وازدهاره في أوروبا لم يكن بفضل دقته الموضوعية، بل لأنه أشبع رغبات مدفونة، مقدمًا سردية تُعلي من شأن الغرب وتُخفض من قيمة (الآخر اليمني). ففي هذه السردية المغلوطة، يصور الشرق على أنه متخلف ومأخوذ بهوس هستيري بالشرق، تمهيداً لشرعنة (التدخل) القادم.
الجسد كأرض للغزو: ثنائية الشهوة والسلطة
الخطاب الكولونيالي لا يكتمل إلا عبر توظيف الاستعارة الجنسية التي تُحوّل العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر إلى علاقة ذكورية أنثوية. يتبلور هذا التوجه بوضوح قاسٍ في عنوان فصْل فارتيما الصريح: "شغف نساء بلاد العرب السعيدة بالرجال البيض" [2]. هذا العنوان ليس مجرد ملاحظة اجتماعية، بل هو تأسيس أيديولوجي: يتم تصوير الشرق (الساذج/المتخلف) كـ "أنثى جامحة" تعاني نقصاً وتتوق للإخصاب، بينما يُنصَّب الغرب (المتقدم/الحضاري) كـ "أبيض ذكر مرغوب" يمتلك القوة والفائض. وبهذا التكثيف، يتحول الغزو الوشيك للأرض إلى مجرد امتداد طبيعي لـ "الرغبة الكولونيالية" في امتلاك واختراق الجسد الشرقي الأنثوي.
ذروة التعرية: اغتصاب رمزي للسلطة المحلية
تصل هذه التوترات الجنسية-السياسية ذروتها في سردية اختراق فارتيما لحرمة بلاط السلطان، حيث يتمكن - رغم كونه أسيرًا - من التجوّل ثم إثارة شغف زوجة الأمير. المشهد الذي تتجرد فيه السردية من كل براءة هو لحظة طلب الأميرة رؤية فارتيما "عارياً تماماً كما ولدت" [3].
هذا الطلب ليس مجرد فضول؛ إنه إعلان عن عقم السلطة المحلية، فبياض الرجل الغربي يُرفع إلى مرتبة الألوهية، حيث تنظر إليه الأميرة "كما لو كنت أحد آلهة الجمال " [4 في المقابل، يُصبح زوجها السلطان رمزاً لـ "السواد" و(الفشل). فترفع الأميرة صوتها متضرعة إلى الله أن يكون هذا الرجل الأبيض زوجها، وأن يكون أولادها بيضاً "مثل الشمس" [4].
هذا التمني العلني لـ استبدال النسل هو في جوهره اغتصاب رمزي لرمزية السلطان اليمني. إنه تجريد للشرقي من رجولته وسلطته، وإقرار ضمني بأن الدم المحلي غير مؤهل للاستمرار، وأن الخلاص الوحيد يكمن في "تهجين" الذرية بـ الجينات الاستعمارية المتفوقة.
وكما تؤكد أدبيات ما بعد الاستعمار، فإن فكرة الاستعمار "قائمة على خطاب مصطبغ بـ الرغبة الجنسية للاغتصاب والإيلاج والتحبيل" [5]. لقد كان فارتيما يزود الغرب بقناعة أن الشرق لا يحتاج فقط إلى أن يُغزا عسكرياً، بل يتوق إلى أن (يُخصب) روحياً وجسدياً من (الرجل الأبيض". إن رحلته هي شهادة مبكرة على كيف يصبح الجسد الشرقي، في عيون الغرب، أول ساحات الغزو وأكثرها إغراءً.
المصادر والمراجع
1- مقدمة كتاب، رحلات فارتيما (الحاج يونس المصري) للمترجم: عبدالرحمن الشيخ، الهيئة المصرية للكتاب، 1994.
2- فارتيما، رحلات فارتيما (الحاج يونس المصري) ترجمة: عبدالرحمن الشيخ، ص71.
3- فارتيما، المرجع السابق، ص 71.
4- فارتيما، رحلات فارتيما (الحاج يونس المصري)، ص 74.
5- بيل اشكروفت، دراسات ما بعد الاستعمار، ص99.
مجيب الرحمن الوصابي