آخر تحديث :السبت-08 نوفمبر 2025-10:22م

المقيلُ اليمنيُّ؛ الشُيوعيّة المُغلقة: طقسُ العبور اليومي

الخميس - 30 أكتوبر 2025 - الساعة 09:32 ص
د. مجيب الرحمن الوصابي

بقلم: د. مجيب الرحمن الوصابي
- ارشيف الكاتب


يغوص الأدب في أعماق الواقع ليُحوّل الممارسات اليومية إلى رموز عميقة؛ وفي رواية "زُربة اليمني " لأحمد قاسم العريقي، لا يظهر القات مجرد عادة، بل يتجلّى كـ "طقس عبور" متكامل، يُعيد تشكيل وعي الفرد ونسيج المجتمع في وجه الانهيار. وبتطبيق إطار أرنولد فان جينيب Arnold Van Genip حول مراحل الطقس، نرى كيف يجد اليمني، المُثقل بالحروب، ملاذاً يومياً مؤقتاً في هذه الأوراق الخضراء.


الانفصال: الهروب من زمن الضرورة


تبدأ الحكاية بلحظة الانسحاب المُتعمَّد، حين يقرر زُربة أن يُعلِّق عباءة الواقع القاسي... مرحلة (الانفصال Separation) وهي لحظة الشراء الدقيق والانتقاء الحريص لأجود "زُربة" من القات. إنها إشارة إلى الانسحاب من الزمن الحاضر، زمن "ويلات الحرب والفقر"؛ حيث يتحول همُّ زربة من صراع البقاء إلى "تخزين أجود أنواع القات" إنه فعل طقسي يُعلن فيه الفرد قطيعة مؤقتة مع مسؤولياته، ليدخل في كهف آمن من اليقظة الوديعة. هذا التحول الرمزي هو بوابته نحو التحرر من صلب الحياة الرتيبة.


العتبة: واحة الشيوعية المُعلَّقة


بمجرد الجلوس وبدء المضغ، يدخل المشاركون في "فضاء ليمينالي" (Liminal Space) أي فضاء على العتبة- خارج حدود الزمان والمكان الاجتماعيين المعتادين؛ هذا هو قلب الطقس، حيث تذوب تراتبية المجتمع وتتجلّى "الشيوعية" (Communitas) التي وصفها فيكتور تيرنر (Turner 1969).


في هذا المقيل، تتساوى الأقدار لا الطبقات. تجد "صمت الحكماء" يمتزج بـ "لهو الأطفال ونزوة الشباب"، ليخلق حالة من الوحدة الوجودية الهشة. هنا، تتحرر الألسنة بالقول الذي لا يجرؤ على الخروج في العلن؛ فيُطلق "زُربة" ضحكته ورذاذ قاتِه معلناً: "لكي أقوم يوم القيامة على ما أنا عليه". هذه العبارة تكشف عن الانعتاق الرمزي واللغوي؛ فالقات يتحول من نبتة إلى مُحفِّز للحوار الفلسفي وشكل من أشكال *تفريغ القلق الوجودي* أمام المصير المربك.


إعادة الدمج: تجديد النسيج من أجل الصمود


بحلول الغروب، تنتهي الجلسة، لتبدأ مرحلة إعادة الدمج (Aggregation). هذه المرحلة ليست عودة إلى نقطة البداية، بل عودة بصفة مُعدَّلة.


يعود "زُربة" إلى عالمه، لكن بعد أن يكون قد "أزال ما تبقى من حزنه أو توتره". الجلسة بذلك تتحول إلى "عملية تنقية نفسية" يومية، أو آلية صمود اجتماعية... الأفراد يُعاد دمجهم في النسيج الاجتماعي اليومي وهم مُحمَّلون بـ طاقة اجتماعية مُتجدّدة وروابط أقوى، تُمكّنهم من مواجهة "الوطن المسلوب" و"السيرة المضطربة". القات، في الرواية، لا يُخلّص الفرد من بؤسه، ولكنه يمنحه القدرة على تحمُّل هذا البؤس. طقس العبور هذا، إذن، وظيفته ليست التحول الشخصي بقدر ما هي تثبيت النسق الاجتماعي وضمان استمراريته في ظل الأزمة الممتدة.


مجيب الرحمن الوصابي