آخر تحديث :الأحد-07 ديسمبر 2025-11:16م

عدن: أزمة السلطة والمواطنة والسياسات الإقصائية

الإثنين - 03 نوفمبر 2025 - الساعة 03:05 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


بقلم:م/فضل علي مندوق


في فضاء السياسة الإقليمية والتغيرات الدولية المتسارعة، تظل عدن مثالًا حيًا على أثر التهميش المنهجي على المجتمعات المحلية، وكيف أن الإهمال المقصود أو الإقصاء المدروس يمكن أن يقوض استقرار المدن ويهدر حقوق أبنائها، ويهدم النسيج الاجتماعي الذي صاغته أجيال من التعايش والتفاعل الحضاري. إن مأساة عدن، التي بدأت تتكشف منذ مغادرة البريطانيين عام 1967، ليست مجرد قصة فقدان للسلطة المحلية أو للفرص الاقتصادية، بل هي سجل حي لتآكل الهوية المدنية، ولحظة اختبار حقيقي لمفهوم العدالة، والمواطنة، والمشاركة الفاعلة في صنع القرار.

لقد جسدت الحقبة البريطانية في عدن نموذجًا مؤسسيًا نادرًا في المنطقة، حيث تآلف الاستقلال الإداري مع مجلس تشريعي منتخب، ونظام قضائي مستقل، وحكومة محلية فاعلة، مع اقتصاد مفتوح قائم على ميناء حر وتنوع تجاري، ومجتمع تعددي متسامح ومتفاعل مع محيطه الإقليمي والدولي. كما سمحت هذه البيئة بالحكم المحلي الفاعل، ومنحت أبناء المدينة فرصة المشاركة الحقيقية في إدارة شؤونهم، ما رسّخ أسس مجتمع مدني قوي ومتنوع. ولكن مع رحيل البريطانيين، بدأت مرحلة التفكيك المنظم لهذه المؤسسات، حيث أُلغي المجلس التشريعي واستُبدل بأجهزة مركزية، وأُقصت الكفاءات العدنية عن مواقع القرار، وتحولت المدينة من مركز للسلطة إلى مجرد محافظة خاضعة للوصاية السياسية والإدارية، ما أدى إلى تهميش النخب المحلية وإضعاف المشاركة المجتمعية بشكل ممنهج.

على الصعيد الاقتصادي، برزت سياسات مصادرة الممتلكات وتأميمها دون تعويض، وتحويل الملكيات الخاصة إلى ملكيات دولة، وتهميش ميناء عدن لصالح منافذ أخرى، ما حوّل المدينة من مركز اقتصادي مزدهر إلى مدينة مستهلكة، وهزّ القاعدة الاقتصادية للأسر العدنية. ترافق ذلك مع تغييرات ديموغرافية ممنهجة، أعادت تشكيل التركيبة السكانية، وحوّلت أبناء عدن إلى أقلية في موطنهم التاريخي، في إطار محاولات لتقويض الهوية الثقافية والحضارية، وإضعاف الرموز والمؤسسات المحلية، وفرض هوية خارجية على المدينة.

وقد أسفرت هذه السياسات عن تداعيات اجتماعية وجماعية عميقة، شملت انهيار الطبقة الوسطى، وهجرة العقول والكفاءات، وتدهور الخدمات الأساسية، وارتفاع معدلات البطالة، وانهيار البنية التحتية، بينما امتدت الآثار النفسية إلى أزمة الهوية الجماعية، وصراع مستمر بين الانتماء المحلي والهوية المفروضة، وفقدان الثقة بالمؤسسات، مع شعور دائم بالغبن والظلم التاريخي، رغم تمسك أبناء عدن بالقيم المدنية والذاكرة الجمعية، واستمرار مطالبهم السلمية بحقوقهم.

على المستوى القانوني والدولي، يشكل هذا الواقع خرقًا صارخًا للحق في إدارة الشؤون المحلية وحقوق الملكية ومبادئ المساواة، مع تقصير السلطة في حماية حقوق أبناء عدن، وتهاون المجتمع الدولي عن فرض الالتزامات الدولية ومراقبة الانتهاكات، ما يعزز الإحساس بالإقصاء المنهجي.

في ضوء ذلك، تتبلور المطالب الجوهرية لأبناء عدن في الاعتراف التاريخي بالظلم، وتقديم اعتذار رسمي، وتوثيق المظالم، وإعادة هيكلة النظام الإداري بما يعزز الحكم المحلي، وضمان تمثيل عادل، وإطلاق برامج تعويضية، وآليات للعدالة الانتقالية والمحاسبة، إلى جانب تعزيز الحكم المحلي الموسع، وإنصاف اقتصادي شامل يشمل التعويض وإعادة الإعمار، وفتح مسارات للمصالحة الوطنية عبر حوار شامل يقر بالحقوق والهوية ويؤسس لشراكة حقيقية في بناء المستقبل.

إن معالجة هذه المظالم التاريخية واعتماد نموذج حكم لامركزي يحترم الخصوصيات المحلية ويكفل المشاركة العادلة في السلطة والثروة يمثل اختبارًا جوهريًا لقدرة أي مجتمع على بناء دولة قائمة على العدالة والمواطنة المتساوية. وفي مقابل ذلك، فإن الاستمرار في سياسات التهميش والإقصاء لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وتقويض أسس العيش المشترك، في حين أن الاعتراف بالظلم والعمل الجاد لتصحيحه يشكل السبيل الوحيد نحو مستقبل مستقر، مؤسس على الإنصاف، واحترام الهوية المحلية، والالتزام بالقيم المدنية التي صاغتها أجيال عدن عبر التاريخ.

وعلى هذا الأساس، نتوجه برسالة عاجلة إلى أصحاب القرار، والمؤسسات الدولية، وبخاصة الخماسية الدولية، للمطالبة بتفعيل دورها في مراقبة الوضع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عدن، والضغط على الجهات المسؤولة لضمان إنفاذ الحقوق، وتعويض المتضررين، وحماية الهوية المحلية. إن المشاركة الدولية الفاعلة تمثل الضمانة الوحيدة لمنع المزيد من الانهيار، ولإعادة بناء مدينة قادرة على أن تكون نموذجًا للعدالة، والمواطنة، والشراكة المجتمعية المستدامة.