من المدهش أن جماعة الحوثي ما تزال تظن أن بإمكانها استدعاء القبيلة اليمنية كلما ضاقت بها المعارك، وكأن الذاكرة الجمعية لهذه القبائل قد مُسحت، وكأن الدماء التي سالت، والمشايخ الذين قُتلوا، والبيوت التي نُهبت، يمكن تجاوزها بحملة تغريدات أو شعار يُعلَّق على عجل.
اليوم مليشيا الحوثي تطلق عبر وكالة سبأ الحوثية حملة بعنوان: "القبيلة.. درع اليمن وجيشه الشعبي في مواجهة الغزاة". عنوان فضفاض، لا يستقيم مع واقع صنعته الجماعة نفسها، واقع جعل القبيلة آخر ما يمكن أن تتكئ عليه تلك الشعارات.
اقول لكم ان القبيلة اليمنية، التي تتحدثون باسمها اليوم، لم تنسَ.
ومن السذاجة الاعتقاد أن ذاكرة الناس يمكن التلاعب بها. فمنذ سنوات، لم تكن القبيلة بالنسبة لجماعتكم سوى مادة خام للحرب، ووقودًا بشريًا يُقتاد من البيوت والمدارس والأسواق بلا احترام، وبلا أدنى اعتبار لكرامة الإنسان اليمني.
هذه الجماعة التي تتحدث اليوم عن "درع اليمن"، هي نفسها التي هدمت دروع القبائل الحقيقية.
هي من قتلت مشايخ حجور وزجت بالبعض منهم في السجون ولحد اللحظة وبعد حصار طويل عنيف.
هي من وصفت قبائل أرحب بـ"الدواعش".
أم قبائل تهامة الذين اعدمتم تسعة من ابنائها
ام قبائل سفيان الذين قتلتموهم في السجون تحت الجوع والموت وبعد اعوام ظهر قبحكم
هي من ألصقت بقبايل البيضاء تهمة "القاعدة" لتبرير الحرب عليهم، بل ورفعت تقارير للخارج لتسهيل قصف مناطق يمنية لا ذنب لها سوى أنها رفضت الخضوع.
هي من حاصرت قيفة ورداع والملاجم، ثم عادت اليوم لتتحدث عن جاهزية القبيلة للقتال في معارك جديدة.
أي تناقض هذا.
وأي ذاكرة تتوقعون أن يتجاهل اليمنيون ألمها وينسون اعمالكم الارهابية ؟
كيف يمكن لجماعة قتلت طفل القبيلة، وشيخ القبيلة، ومعلم القبيلة، وتاجر القبيلة، وراعي القبيلة، ومصلح القبيلة… أن تعود اليوم متوشحة بعباءة القبيلة نفسها؟
كيف لجماعة سحقت مكانة الشيخ وداهمت بيوت الوجهاء، وصادرت السلاح، وفرضت الجبايات، وأنهكت الناس بالخُمس والإتاوات… أن تتحدث فجأة عن "التاريخ المشرف للقبائل"؟
لقد انهارت كل هذه الشعارات في اللحظة التي اختطفت فيها الجماعة أبناء القبائل من الطرقات، وزجت بهم في معسكرات التجنيد القسري.
وانهارت أكثر حين جعلت من مشايخ يمنيين مجرد قوائم للهدف: من سجن، إلى اغتيال، إلى تهم ملفقة تُرمى جزافًا لتسقط مكانتهم في مجتمعهم.
وانهارت تماماً عندما تعاملت مع القبيلة كمخزن بشري لا أكثر، بدلاً من كونها عمودًا تاريخيًا في الحياة السياسية والاجتماعية اليمنية.
اليوم، حين تعلن وكالة سبأ حملة بعنوان "القبيلة تتحدى الصهاينة"… يبدو الأمر وكأنه محاولة لتغطية فشل داخلي، ومحاولة لتضليل الشباب عبر بوابة الشعارات التي أثبت الزمن هشاشتها.
ليس حبًا في غزة، ولا دفاعًا عن فلسطين—فالقضايا الكبرى لا تُتاجر بها الميليشيات—بل رغبة في تجنيد جديد، وفتح باب تعبئة لا تنتهي، وكأن اليمني لم يكتفِ بما ناله من حرب ودمار وفقر وتشريد.
اليمنيون اليوم يريدون دولة، لا حملة تغريدات.
يريدون سلاماً حقيقياً، لا "هدن" تُستغل لتجهيز جبهات جديدة.
يريدون مواطنة لا قبيلة ولا سلالة ولا جبايات.
يريدون مستقبلاً، لا استمرارًا للعنف تحت أي شعار.
إن استخدام اسم القبيلة اليوم لم يعد سوى سلاح إعلامي فقد فاعليته. فالقبيلة التي هُجرت وقُتلت وشُردت، لن تعود لتُستخدم من جديد كبوابة لحروب عبثية.
لقد فهم الناس، وفهمت القبيلة، وفهم اليمن كله أن الخطاب الحوثي هو خطاب تعبئة، لا خطاب دولة.
وأن من يتحدثون اليوم باسم القبيلة، كانوا بالأمس أول من داسها، وأول من حاصرها، وأول من اعتدى على أبنائها.
أتحدث هنا كصحفي مهتم بملفات الحقوق والانتهاكات، لا كخصم سياسي. وأكتب دفاعًا عن إنسان يمني تعب من الحرب ومن الفقر ومن الشعارات الفارغة.
وإذا أرادت الجماعة أن تفهم رسالة اليمنيين، فهي واضحة كالشمس: كفى. فقد انتهى زمن الخداع، وانتهى زمن استغلال القبيلة باسم المقاومة والدين والقضايا الكبرى.