م.عبدالناصر صالح ثابت
لم يشهد اليمن في تاريخه القديم أو الحديث صراعاً معقداً مثل الذي يمر به اليوم. تكمن صعوبته في تعدد الأطراف
وتداخل المصالح، وتراكم المشكلات منذ تحقيق الوحدة اليمنية وحتى اليوم. الحروب المستمرة والهدن المتكررة
أثبتت أن السلام في اليمن لن يُبنى على حسن النوايا وحدها، بل على التحقق والحقائق الموثقة.
على مدى السنوات الماضية، أظهرت التجربة أن جميع الاتفاقات والعهود التي تبرم بين الفرقاء اليمنيين سرعان ما
تتحول إلى صراعات وحروب. تعود الأطراف إلى نقطة البداية بعد كل تفاهم، وكأن قدر اليمن هو البحث عن
الاختلاف والغوص في صراعات لا تنتهي. لذلك أصبح الحديث عن “بناء الثقة” شعاراً جميلاً لكنه لا يحرك الواقع.
أكدت حرب السنوات العشر الأخيرة للمجتمع الدولي والفاعلين الإقليميين أن السلام في اليمن لن يقوم على الثقة
وحدها. فالثقة مفهوم هش يحتاج إلى تاريخ طويل من الالتزام، بينما يعيش اليمن في بيئة يعتاد فيها الجميع على
خرق الاتفاقات دون كلفة. كل طرف يفسر الاتفاقات بما يخدم مصالحه، وكل هدنة تمر بخروقات تكتيكية. بناء
السلام على النوايا وحدها وصفة للفشل، بينما الاعتماد على آليات مراقبة وتحقيق واقعية هو الخيار الأمثل.
ظهر هذا التحول بوضوح في الاجتماعات الدولية الأخيرة، التي يبدو أنها ستركز على مبدأ التحقق خلال الفترة
القادمة. تشمل المراقبة فتح الطرق، تتبع حركة السلاح، مراقبة وقف إطلاق النار، الرقابة على الإيرادات، وتوفير
ضمانات إقليمية ودولية لأي اتفاق. الأطراف لا تتعامل مع الاتفاقات كشراكة أخلاقية، بل كمعادلة نفوذ، لذلك أصبح
الحديث عن الثقة من الماضي.
حتى في الجانب الاقتصادي وضبط الفساد، أي التزام غير قابل للتحقق الدولي سيفشل. صرف الرواتب، وعودة
صادرات النفط، وتوحيد السياسة المالية تحتاج إلى آليات مستقلة وشفافة. فقد أثبتت التجربة أن الانهيارات
الاقتصادية كانت سبباً مباشراً لفشل الهدن، لأن غياب الشفافية سمح لكل طرف بتفسير التزاماته بما يخدم مصالحه.
مبدأ "التحقق" يُطبق في معظم النزاعات المعقدة في العالم، حيث يُبنى السلام على ضمانات، أدوات مراقبة، وآليات
محاسبة دقيقة. وفي اليمن، يصبح هذا المبدأ أكثر أهمية وواقعية، لأن الدولة المركزية ضعيفة، والأطراف متعددة،
والولاءات متشابكة.
السلام الحقيقي لن يتحقق عندما يثق الحوثي بالحكومة أو يثق المجلس الانتقالي بالحوثيين؛ فهذا غير واقعي الآن. بل
سيتحقق عندما تتوحد الإرادة الدولية والإقليمية في وضع حلول واقعية بضمانات تحقق فعالة. الحرب والسنوات
العجاف قد أضعفت الجميع، والتوازن الحالي هو توازن ضعف لجميع الأطراف المتصارعة.
الواضح من الواقع الحالي أن السلام القادم في اليمن لن يكون اتفاقاً واحداً، بل مساراً تدريجياً يتعامل مع كل طرف
وفق موقعه ونفوذه، وستفرض على الأطراف المتصارعة المنهكة ضوابط وآليات مراقبة حتى الوصول إلى الحل
الكامل.
في النهاية، مستقبل اليمن لن يُصنع بالتصافح أمام الكاميرات، بل عبر مؤسسات دولية تحمي الاتفاقات من الانهيار.
هذا التحول من “الثقة” إلى التحقق والحقائق قد يكون الخطوة الأولى لاتفاق أكثر واقعية، قادر على الصمود أمام
صراع أنهك الجميع، ومسار نحو سلام مستدام يمنح اليمن فرصة حقيقية للتعافي والبناء.