آخر تحديث :الخميس-27 نوفمبر 2025-02:49ص

رجل بصمت وعزم: العميد الصالحي وإدارة البحث الجنائي كما يجب أن تكون

الأربعاء - 26 نوفمبر 2025 - الساعة 05:07 م
نجيب الكمالي

بقلم: نجيب الكمالي
- ارشيف الكاتب


لأول مرة يرن هاتفي على العميد جميل الصالحي، مدير البحث الجنائي بتعز، وكان الاتصال بخصوص أحد أقاربي. لم يكن مجرد حديث بروتوكولي عابر، بل نافذة أطلّ منها على شخصية متواضعة وحليمة، تستمع قبل أن تحكم، وتمهل قبل أن تقرر. يرد على أي هاتف دون تحفظ أو تردد، وهو ما يشي بحس عالي بالمسؤولية وحرص على التواصل المباشر مع الناس. نبرة صوته هادئة، ذهنه حاضر، واهتمامه بالتفاصيل يوضح أنه يعرف حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ويؤمن بأن الإصلاح يبدأ من الداخل قبل أن يظهر أثره على الواقع الخارجي. في زمن تغرق فيه مؤسساتنا بالفوضى والروتين والانفعالات، كان هذا الهدوء كالنسيم في غرفة خانقة، يذكّرك بأن القيادة الحقيقية لا تُقاس بالضجيج أو بالظهور الإعلامي، بل بالقدرة على التأثير من الداخل وبالالتزام الصادق بالواجب والمسؤولية.


تعز، المدينة التي تنبض بالحياة رغم سنوات الحرب والحصار، تتنفس بصعوبة، لكن في قلب هذه الصعوبات يولد أمل خافت، أمل يمكن أن يتحول إلى نور إذا التقت المؤسسات برجال يعرفون معنى العمل الجاد ويؤمنون بقدرات الشباب المبدع. الصالحي يحب الشباب ويومن بإمكاناتهم، ويسعى لإعطائهم الفرصة لإظهار مهاراتهم وابتكاراتهم، لكنه يتحسر أحيانًا على تصرفات بعض الشباب التي لا تعكس جوهرهم الحقيقي، والتي تقع أحيانًا خارج إرادتهم، دون أن يكون هو سببها. هذا التوازن بين التفهم والتوجيه يعطيه حكمة مميزة، ويجعل منه قائدًا لا يقيس الناس بأخطائهم العابرة، بل بقدرتهم على التعلم والنمو.


منذ ثلاثة أشهر فقط على توليه إدارة البحث الجنائي، بدأ الصالحي يرسم طريقًا مختلفًا، طريق يعتمد على الإصلاح التدريجي، بعيدًا عن الشعارات الفارغة والتصريحات المعلبة. خلال حديثنا عن القضية، بدا واضحًا أنه حريص على أن يمضي بالقانون دون تصعيب الأمور أو تعقيدات زائدة، مؤمنًا بحق الجميع، وينظر إلى القضايا بعين واحدة، مؤكّدًا أنه بدأ العمل قريبًا من القاعدة، ومستعد لتنفيذ إصلاحات تبدأ من داخل الإدارة: ترتيب الملفات، تقييم الكادر، تمكين العناصر المؤهلة، وصقل المؤسسة من الداخل.


خطوات صغيرة قد لا يراها المواطن مباشرة، لكنها تشكل العمود الفقري لأي إصلاح حقيقي ومستدام. فالأمن لا يُقاس بالشعارات، بل بالقدرة على زرع النظام والمهنية داخل المؤسسة نفسها، خطوة بخطوة، بصبر وعزم، وبتوازن نادر بين الحزم والهدوء. وعندما تأتي الفوضى والانفلاتات، يبقى موقفه واضحًا وصريحًا: القانون هو الإطار، والانضباط هو المعيار، والهيبة تُستعاد بالأفعال لا بالكلمات.


الصالحي لا يقدم نفسه كبطل خارق، ولا يلوّح بالإنجازات الكبرى، بل يعمل بصمت، ويعتمد على تراكم الخطوات الصغيرة التي تشق طريقًا طويلًا نحو الإصلاح. وفي مدينة مثل تعز، التي اختبرت صبر أهلها، يصبح هذا النوع من الإدارة الأقرب إلى الواقع، والأكثر قدرة على تجسيد معنى المسؤولية والالتزام، ويعيد الأمل بأن الأمن لا يتحقق بالكلمات، بل بالأفعال الثابتة والمستمرة.


تعز اليوم تحتاج إلى هذا النوع من الرجال: من يسمع ويفهم، ويعمل بعيدًا عن الانفعال، ويؤمن بأن الإصلاح ممارسة يومية تبدأ بخطوات صغيرة وصامتة لكنها ثابتة، لتعيد الثقة بالمؤسسات، وتزرع الأمل في نفوس الناس. هذه التجربة ليست مجرد إدارة أمنية ناجحة، بل رسالة تقول إن التغيير ممكن، وأن الدولة يمكن أن تُبنى من جديد إذا امتلكت المؤسسات رجالًا يضعون المسؤولية فوق كل اعتبار، ويبنون المستقبل بصمت، وهدوء، وإصرار على فعل الصواب، مع دعم وتشجيع الشباب المبدع، ومراعاة أن الأخطاء العابرة لا تحجب قدراتهم أو تضعف إرادتهم على التعلم والنمو.