إنَّ هذهِ الورقةَ ليست سوى محاولة لفكّ اشتباك هذا الجدل المستفحل، والبحث في التأصيل العلمي لأقوال الفقهاء الذين رأوا في هذه الشجرة مدخلاً إلى الحرمة، دون أن يُغمضوا العين عن دوافع مَن أباحوها.
أولاً: أسباب الخلاف. بين النصّ وواقع النشأة
لم يكنِ القاتُ حاضراً في عصر النبوة والاجماع، فباتت مسألة حكمه فرعاً اجتهادياً نشأ خلافه في القرن العاشر الهجري، ليُصبح من أعوص المشكلات الفقهية. لم يجد العلماء نصاً قطعياً مباشراً، فباتوا بين مدرستين:
مدرسةُ الإباحة (الأصل في الأشياء الإباحة): وهي المدرسة التي تبنّاها الكثيرون، خاصة في بيئته الأصلية، إّذ ركّزوا على عدم وجود إسكار أو تخدير صريح كالذي يحدث في الخمر. وتأثر كثير من هؤلاء، بمن فيهم علماء كبار كـالشوكاني، بتجربتهم الشخصية، حيث لم يجدوا أثراً واضحاً يوجب التحريم لذاته.
مدرسة التحريم (لا ضرر ولا ضرار): وهي المدرسة التي استندت إلى عموميات الشريعة وقاعدة درء المفاسد، معتبرة أن القات، حتى لو لم يُسكر، فهو مُفَتِّر أو مُضر بآثاره المتعددة (الصحيّة، الاجتماعية، المالية). واحتجّ هؤلاء، ومنهم من شارك في مؤتمر المدينة المنورة (1982م)، بما ثبت من الأضرار التي لا يكاد ينكرها اثنان.
لقد كان الخلاف في علة التحريم هو مفتاح الباب؛ هل هي التأثير المباشر على الجهاز العصبي (الإسكار/التفتير) أم الضرر العام (الاجتماعي والصحي والمالي)؟
ثانياً: الفتاوى وتأثير البيئة
لقد أدّى هذا الاختلاف إلى صدور فتاوى متضاربة، بدءاً من الفقهاء الصوفيين في القرون الأولى لانتشاره، مثل عمر بن علي الشاذلي وعبد الهادي السودي. لقد وصل الأمر ببعضهم إلى تقديسه، وزعم أنه "نزل من الجنة"، بل ونظموا فيه القصائد التي تصف تعاطيه بأنه "معراج للروح" و"تنويراً للقلب"، مما كشف عن انحراف صوفي خطير في تناوله.
القَاتَ يَجْلِبُ لِلْأَرْوَاحِ إِفْرَاحَا*** وَيُورِثُ الْقَلْبَ تَنْوِيرًا وَإِصْلَاحَا
وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ نَكَدٍ*** حَتَّى يَعُودَ بُعَيْدَ الْهَمِّ مُرْتَاحَا
وفي المقابل، نجد من أعلن إباحته كابن الأمير الصنعاني، وإن كانت نُقلت عن غيره كالـشوكاني، حيث بيّنوا أنهم لم يجدوا فيه إسكاراً، فاعتمدوا على قاعدة الحلّ ما لم يثبت الضرر.
لقد كان لـتأثير البيئة دورٌ لا يُنكر، فالفقيه الذي نشأ وسط ظاهرة القات، يختلف رأيه عمن نشأ في بيئة نائية عنه. ولعلّ هذا ما يفسّر صراع المتعاطي الفاضل الذي يُصلي ويقرأ القرآن، لكنه لا يكاد يتيقن الحرمة، متمسكاً بأصل الإباحة، حتى تثبت له الحُجة القاطعة.
إنّ هذه السجالات الفقهية والأدبية، رغم حدّتها، تظلّ تُركّز على أن الضرر هو العلة الجامعة للتحريم؛ فما أضرّ بالمال أو الصحة أو الدين فهو محظور، وإن كان أصل النبات مباحاً. ويبقى البحث دعوة للتجرد والإنصاف، لئلا يكون الهوى أو ولع البيئة حاكماً على شريعة الله، بل يكون حكم الضرر هو الفيصل.
يتبع أقوال العلماء المحرمين لتعاطي القات دراسة وتحليل.
مجيب الرحمن الوصابي