علي عبد الكريم
دوماً تأتينا من مصر العروبة المواقف والقراءات التي تبحر فهماً وعمقاً، وتغوص في مياه اليمن المتدفقة سيولاً، تجرف معها خرائط السياسة التي صنعتها جغرافيا كيان أبحر ذات مرة ليصنع على أرضه حدثاً، دلالاته وتأثيراته حملت من المصاعب والتحديات أكثر وأكبر من الآمال التي توِّجت تلك الرحلة التي استكملها نضال وأحلام شعب اليمن من قبل صفوة سياسية ملغّمة بالكثير من المخاطر والتحديات الكامنة في صلب مشروع الوحدة ودولتها.
وهو ما تمثل بولوجها مستنقع الحرب والاختناق بعد فترة وجيزة لا تتعدى السنوات الأربع، ليُعلن بعدها الانفصال، ويدخل يمن الوحدة معتركاً أبعد ما يكون عن مشروع الوحدة. ولج اليمن محراب الاحتراب وبرك الدماء، ورمى بذور الفتنة والكراهية بين أبناء الوطن الواحد، تمزقات لم تطل فكرة الوحدة فحسب، بل تعمّق الجرح، ولم يقتصر على محراب السياسة، بل طال جسد وفكر ومصالح الإنسان، الناس.
وما جرى من وحدة بعد حرب 94 التي شنتها ذات القوى التي دمر نهجها المدمر، المتعالي عن مصالح الناس والوطن والمواطن، كان نهجاً مائلاً لصالح ما هو أدنى من متطلبات ترسيخ مشروع حضاري حامل اسم الوحدة اليمنية، ذات الأبعاد الإنسانية الوطنية، بأجنحتها التي ترفرف بمفاهيم مشروع بناء دولة المواطنة، دولة ذات أبعاد وطنية حقيقية، لا دولة استحواذ وسيطرة للقوى الأمنية والقبلية ومن لف لفهم من الانتهازيين ومنتفعي إعادة الاصطفاف لرغبة هنا أو مسعى هناك.
نقول مع الأسف الشديد إن ما عاشته دولة الوحدة لم يكن أكثر من فترة استراحة محارب من قبل من كانوا يبحثون فعلاً عن وحدة حقيقية، لكنهم وجدوا العكس. وقد زاد هذا الشعور، وهو شعور وطني مقدّر للجنوب الباحث عن كينونته الفاعلة المؤثرة القائدة، وليست التابعة المهمشة، وهي وضعية تم قراءتها من قبل الكثيرين الذين ناصبوا ليس مشروع الوحدة العداء، لكنهم بالأساس يروون بانعدام المبرر التاريخي والوطني لمشروع كبير كهذا، حيث كانت الصورة لديهم تمثل مفهوماً مضطرباً لتاريخ يمني ضارب جذوره في التاريخ.
وهما طرفان:
طرف، وهو غالباً طرف إقليمي مجاور لا يريد تكوّن كيان قوي يمتلك كل عناصر القوة إن تشكلت لديه إرادة وطنية مستقلة، أرقى أشكالها قيام دولة موحدة قوية، أو أطراف دولية لا تحبذ نجاح مثل هذه المشاريع.
وطرف آخر محلي لا يؤمن أصلاً بأي علاقات تاريخية تؤكد ما تقوله ادعاءات السياسة، كما يقولون، بوجود جذور تاريخية تؤسس للفكرة الوطنية للوحدة.
لذا كانت الفترة من عام 90 وحتى اليوم فترة مضطربة، لم تشهد من مشروع الوحدة البديل الوطني، بل ما تجلّى لم يزد عن دقات طبول الحرب والاقتتال، وقوى تدق مدافعها. وللأسف كانت فترة من أسوأ مراحل بلادنا اليمن، الذي مر بمعارك وحرائق وجراحات ظلت تتراكم ولم تندمل على الإطلاق.
أكتب هذا الكلام وأنا أقرأ بتركيز شديد المقال الرصين الذي كتبه الأخ العزيز الدكتور حسن أبو طالب بصحيفة الأهرام الغراء، عدد اليوم الموافق 15 ديسمبر 2025، مقالاً يليق بالقراءة المتأنية، يستشعر القارئ وهو يتابع سطوره مدى الحرص في كلماته على وطن يتلاشى في زمن رديء، تتلاشى معه كل الأحلام والمشاريع الوطنية الكبرى التي دُفعت لأجلها دماء غزيرة وثمينة.
أختم بالقول: إن الدكتور حسن أبو طالب من المتابعين للشأن اليمني بشكل ممنهج ودقيق، وبالمناسبة هو من خريجي نفس الدفعة التي تخرجنا بها سوياً من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1970 بجامعة القاهرة.
شكراً لمصر وتضحياتها ببلادنا شمالاً وجنوباً، وشكراً للدكتور حسن على متابعته للملف اليمني عبر جريدة الأهرام ذات المقام الرفيع.