آخر تحديث :الأحد-21 ديسمبر 2025-01:55م

البكاء على أطلال الوحدة: قراءة في خطاب لم يتغير وواقع لا يُنكر

الأحد - 21 ديسمبر 2025 - الساعة 10:22 ص
عدنان زين خواجه

بقلم: عدنان زين خواجه
- ارشيف الكاتب


/عدنان زين خواجه


لم يكن متوقعًا، بعد خمسة وثلاثين عامًا من إعلان الوحدة، أن يظل خطاب أجيال في الشمال أسير ذات المفردات والمقولات التي كان يرددها علي عبدالله صالح، والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وقيادات أحزاب الشمال في تسعينيات القرن الماضي. المدهش أن هذا الخطاب يُعاد إنتاجه اليوم من قبل أجيال يفترض أنها أكثر تعليمًا وثقافة ووعيًا، في زمن اتسعت فيه أدوات المعرفة، لكن الفجوة بين الوعي المفترض والممارسة الواقعية لا تزال شاسعة.


من الناحية المفاهيمية، تعني الوحدة – في أبسط تعريفاتها السياسية – اندماج دولتين أو كيانين أو فصيلين في دولة واحدة، تُدار بمسؤولية وطنية تخدم جميع المواطنين دون تمييز أو إقصاء. غير أن ما حدث بعد إعلان وحدة 1990م لم يسر في هذا الاتجاه. فمنذ اللحظات الأولى، أُعدت العُدة للحرب، وتم التخطيط المبكر للغدر بالشريك الجنوبي، رغم الخطاب العاطفي الذي كان يرفع شعارات “الأخوة” و”الوحدة الأبدية”.


اندلعت حرب 1994م، ولم تكن مجرد صراع سياسي عابر، بل كانت حرب إقصاء ممنهجة، أُبعدت على إثرها كوادر جنوبية سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية من مواقعها، وتم تسريح عشرات الآلاف من أعمالهم، بل وصل الأمر إلى التخطيط لاغتيال شخصيات عسكرية وأمنية وسياسية. ومع ذلك، تحمّل أبناء الجنوب تبعات الهزيمة، وحاولوا لسنوات تصحيح مسار الوحدة من داخلها، على أمل بناء دولة شراكة وعدالة، لا دولة غلبة وانتقام.


لكن المفارقة المؤلمة أن من يتباكون اليوم على “الوحدة” هم أنفسهم من لم يتعاملوا معها يومًا كقيمة وطنية، بل كأداة للهيمنة، وتعاملوا مع الجنوب وشعبه بعقلية الحقد والغل، لا بعقلية الشراكة والمواطنة المتساوية. لم تكن هناك وحدة حقيقية يُدافع عنها، بقدر ما كان هناك مشروع سلطة يُفرض بالقوة.


وجاء عام 2015م ليكشف حقيقة أعمق. حين اجتاح الحوثيون وحلفاؤهم أراضي الجنوب، لم يدافع عن المحافظات الجنوبية سوى أبنائها. في المقابل، كانت هناك قوات عسكرية وأمنية متمركزة في الجنوب، لكنها لم تقاتل دفاعًا عنه، بل تحالفت – بشكل مباشر أو غير مباشر – مع الحوثي، أو انسحبت تاركة المدن لمصيرها. عندها، لم تعد الشعارات قادرة على إخفاء الواقع.


حرر الجنوب أرضه بدماء أبنائه، ثم ظهرت ما سُميت بالشرعية، واختيرت القيادات الحكومية في غالبيتها من الشمال، قيادات بلا أرض تحكمها، وبلا ارتباط حقيقي بمعاناة الجنوب. استقبلهم الجنوب بصدر رحب، وكان الأمل أن يكون ذلك بداية لمرحلة احترام متبادل، وتحسين للوضع الاقتصادي والمعيشي والمالي في المحافظات الجنوبية التي تحملت عبء الحرب والاستضافة معًا.


لكن ما حدث كان العكس. بدلًا من السعي الجاد لتحسين حياة الناس، جرى محاربة شعب الجنوب في لقمة عيشه، واستُخدمت أدوات الاقتصاد والخدمات للضغط السياسي، وكأن الجنوب يُعاقَب لأنه دافع عن نفسه وحرر أرضه. وهنا يتجدد السؤال الجوهري: أي وحدة هذه التي يُطلب من الجنوب البكاء على أطلالها، بينما لم تجلب له سوى الحروب والإقصاء والتجويع؟


إن البكاء على أطلال الوحدة، دون مراجعة صادقة لتجربتها، ودون اعتراف بالظلم الذي وقع على الجنوب، ليس سوى إعادة إنتاج لأزمة قديمة بثوب جديد. فالوحدة الحقيقية لا تُفرض بالقوة، ولا تُدار بعقلية المنتصر والمهزوم، بل تُبنى على العدالة والشراكة والاحترام المتبادل. وما لم يُدرك دعاة “الوحدة” هذا المعنى، سيبقى خطابهم مجرد صدى لماضٍ فشل في أن يكون وطنًا للجميع.