آخر تحديث :الأربعاء-24 ديسمبر 2025-04:38م

جمهورية الموظفين… حين تطالبك الفصائل بالصمود وتوقّع حضورها في كشوف الرواتب

الثلاثاء - 23 ديسمبر 2025 - الساعة 10:24 ص
غسان جابر

بقلم: غسان جابر
- ارشيف الكاتب


لنكن صريحين إلى الحدّ المؤلم:

المأزق الفلسطيني اليوم لا يكمن فقط في الاحتلال، بل في بنية سياسية داخلية تحوّلت فيها الفصائل من حركات تحرر إلى مؤسسات توظيف مغلقة، ومن أدوات تمثيل شعبي إلى أطر تحمي كوادرها… لا شعبها.

الفصائل الفلسطينية، بمعظمها، لم تعد تمثّل مجتمعًا، ولا تعكس نبض الشارع، ولا تفهم تحوّلات الجيل الجديد.

هي اليوم تمثّل فئة محددة: كوادرها.

وكوادرها – شئنا أم أبينا – موظفون.

يتقاضون رواتب، يحافظون على مواقع، ويدافعون عن امتيازات، ويتعاملون مع القضية باعتبارها “وظيفة وطنية” لا مشروع تحرر.

ومن موقع الموظف هذا، يطالبون الناس بالصمود.

الصمود، في خطابهم، ليس فعلًا سياسيًا واعيًا، بل واجبًا أخلاقيًا مفروضًا على الآخرين.

الصمود هو أن يبقى الشاب بلا عمل، بلا أفق، بلا مستقبل… بينما يبقى القائد في موقعه بلا مساءلة.

الصمود هو أن يتحمّل الشعب الكلفة كاملة، بينما تُدار السياسة من المكاتب، لا من الشارع.

الأمناء العامون للفصائل يتقنون شيئًا واحدًا:

الحديث عن “بطولات الشعب”.

يكرّرون العبارة نفسها في كل بيان، في كل مؤتمر، في كل ندوة تُعقد خارج البلاد غالبًا.

الشعب عظيم، الشعب صامد، الشعب أسطوري…

لكن السؤال البسيط الذي لا يجيبون عنه:

وماذا عن حياة هذا الشعب؟

الشاب الفلسطيني لا يريد مديحًا.

يريد فرصة.

لا يريد قصيدة وطنية.

يريد وظيفة.

لا يريد أن يكون رمزًا.

يريد أن يكون إنسانًا طبيعيًا في بلد طبيعي.

لكن الفصائل لا ترى هذا الشاب.

لأنها لا تشبهه.

ولا تعيش ظروفه.

ولا تشاركه قلقه.

الفصائل اليوم أقرب إلى إدارات بيروقراطية هرِمة:

تراتبية جامدة، قيادات ثابتة، لغة قديمة، وعقل سياسي متخشّب.

من يدخلها يصبح جزءًا من نظام مغلق،

ومن يخرج منها يُتهم بالانحراف أو الخيانة.

لهذا لم يعد الشارع يرى فيها ممثلًا له.

ولهذا صارت الهجرة – بالنسبة للشباب – خيار حياة، لا موقفًا سياسيًا.

الهجرة ليست فعلًا فرديًا معزولًا، بل تصويت صامت ضد نظام سياسي فاشل.

تصويت ضد فصائل لم تُحدّث نفسها، ولم تُحاسب قياداتها، ولم تُنتج مشروعًا وطنيًا قابلًا للحياة.

المفارقة الفاقعة أن من يحرّمون الهجرة على الشباب، هم أكثر الناس سفرًا.

لكن سفرهم “نضالي”،

أما سفر الشاب فهو “هروب”.

هم يسافرون بجوازات رسمية ودعوات دولية.

والشاب يسافر لأنه لم يعد يحتمل الانتظار.

الفرق الوحيد؟

أن الأول يملك منبرًا يبرّر،

والثاني يملك حقيبة وقلقًا فقط.

الحقيقة القاسية التي يجب قولها:

الفصائل لا تشعر بالأزمة كما يشعر بها الناس.

لأن كوادرها محميّون.

رواتبهم مستمرة.

مواقعهم محفوظة.

أبناؤهم ليسوا في طوابير البطالة.

لهذا يسهل عليهم الحديث عن الصمود.

ولهذا يصعب عليهم الاعتراف بالفشل.

لكن لا يمكن بناء مستقبل وطني بعقلية الموظف.

الموظف يخاف على موقعه.

أما المناضل فيخاف على شعبه.

اليوم، الخطر الحقيقي ليس أن يهاجر الشباب،

بل أن تبقى السياسة أسيرة فصائل لم تعد ترى في الناس إلا وقودًا لشرعيتها.


نقول:

كفى نفاقًا سياسيًا.

كفى مطالبة الناس بالصمود باسم فصائل لم تعد تمثّلهم.

كفى استخدام “بطولة الشعب” كستار لإخفاء الإفلاس السياسي.

إما أن تُجدد الفصائل نفسها جذريًا،

وتعود لتمثيل الناس لا كوادرها،

وتخاطب الشباب بلغة المستقبل لا بلغة الشعارات…

أو فلتتحلَّ بشجاعة الاعتراف:

أنها لم تعد أهلًا للتمثيل.

الشعب الفلسطيني يستحق قيادة تُشبهه،

لا إدارة تُديره


م. غسان جابر - قيادي فلسطيني.