في زحمة الحياة، وسط صخب الطموحات والانشغالات اليومية، ينسى الإنسان حقيقة كبرى لا مفر منها، حقيقة لا تعرف تأجيلًا ولا استثناءً، حقيقة اسمها: الموت.
ورغم إيماننا العميق بأن الموت قدر محتوم، إلا أن كثيرًا منا يفضل أن يتجاهله، أن يضعه في زاوية مظلمة من الوعي، كأن في تجاهله تأجيلًا له، أو في نسيانه نجاة منه.
يخشى البعض أن يكون ذكر الموت نذير شؤم، أو سببًا في تعكير صفو الحياة، فيبتعدون عنه، ويهربون من الحديث عنه، وكأنهم بذلك يحمون أنفسهم من لقائه.
لكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الموت قادم، لا محالة. يقول الله تعالى:
*﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾*.
فهو لا يُؤجل، ولا يُستأخر، ولا يُستقدم، كما قال تعالى:
*﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾*.
نعيش اليوم مفارقة صارخة بين ما نؤمن به وما نمارسه. نُشيّع الأحبة إلى مثواهم الأخير، نذرف الدموع، نردد الأدعية، ثم نعود إلى حياتنا كأن شيئًا لم يكن. نؤمن بأن الموت قريب، لكننا نعيش وكأنه بعيد، نوقن بأن الدنيا فانية، لكننا نتصرف وكأنها باقية
انها مفارقة الإيمان والسلوك.
القرآن الكريم أشار إلى هذه المفارقة بقوله:
*﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾*.
قد يتساءل البعض: لماذا نُذكّر أنفسنا بالموت؟
أليس في ذلك إحباط؟
أليس من الأفضل أن نعيش اللحظة ونستمتع بالحياة؟
لكن الحقيقة أن ذكر الموت ليس دعوة للكآبة، بل هو دعوة للحياة الحقيقية. هو تذكير بأن ما نعيشه الآن ليس إلا محطة مؤقتة، وأن الوجهة النهائية هي الآخرة، حيث الخلود الأبدي، إما في نعيم مقيم أو عذاب أليم.
تخيل أنك أمام خيارين: أن تعيش في بلد خمس سنوات، أو في بلد آخر مئة سنة. أيهما تختار للاستثمار؟
المنطق يقول: البلد الأطول عمرًا.
فما بالك بالحياة الدنيا المؤقتة، مقارنة بالآخرة الأبدية؟!
العاقل هو من يجعل ذكر الموت دافعًا للعمل، لا سببًا للجمود. من يسأل نفسه قبل كل قرار:
هل هذا يقربني من الله؟
هل هذا القول أو الفعل سينفعني في الآخرة؟
هل هذه العلاقة تعينني على الطاعة أم تجرني إلى الغفلة؟
ذكر الموت يجعل الإنسان يختار رفقاءه بعناية، يزين أعماله بما يرضي الله، ويتخفف من كل ما يثقل خطواته نحو الجنة.
إنه البوصلة التي تعيدك إلى الطريق الصحيح، والمرآة التي تعريك أمام نفسك، وتضعك أمام السؤال الأهم:
*هل ستغادر الدنيا خفيفًا أم مثقلًا بما يغضب ربك؟*
فلنتذكر ان القبور مليئة بأناس كانوا يملكون الوقت، لكنهم لم يحسنوا استغلاله.
فلا تجعل ذكر الموت شيئًا محبطًا، بل اجعله محفزًا لحياة أبدية، حياة تبدأ من لحظة الوعي بأن الموت ليس النهاية، بل البداية.