تقف في بلكونة شقتها متجولة بين أحواض زرع الريحان والنباتات العطرية معتنية بسقايتها ونزع الاعشاب الطفيلية التي تنمو بجوارها مهذبة أوراقها متفحصة أزهارها مقتربة منها لتشتم رائحة عطر زهر الريحان الفواح من بين الأحواض ثم تتجه نحو اقفاص الكناري لتضع لها الحبوب وتملئ الأحواض بالماء وتظل واقفة متأملة حركة طيور الكناري وهي تذاعب بعضها البعض تتنقل بين زوايا وثنايا الاقفاص تمد كفيها نحو الكناري الذي يقترب نحوها ويتعلق على حافة القضبان مغردا بترنيمات ترحيب وتحية .
بالقرب من زاوية من زوايا المكان تقبع طاولة كانت تجلس هي وزوجها الراحل حولهاو لتناول الفطور وشرب كأس الشاي الممزوج برائحة الهيل والزنجبيل والقرفة وجوز الطيب مزيج الروائح العطرية التي كان زوجها يعشق مذاقها مع كوب شاي الحليب تجلس وامامها كوبين تصب الشاي وتقلب مزيج البهارات وتبدأ ترتشف قطرات من مزيج الشاي تنهض وقبل ان تغادر المكان ولأول مرة تفتح أبواب الأقفاص وتعود متجهة نحو غرفة نومها بنوافذها الكبيرة المطلة على بلكونة الشقة المطلة على الشارع غير مبالية بالضجيج المتصاعد من المحلات وضجيج السيارات ترسل بصرها نحو زوايا الغرفة وكانها في حالة وداع لها تقع عينيها على بروز صورة لزوجها الراحل تمتلىء عينيها بالدموع فتنقطع عن الحاضر لتغوص في سنوات من الماضي الجميل الذي جمعها بزوجها الراحل لأكثر من ستين سنة بأطراف أناملها تمسح على برواز الصورة وتتقدم نحوه لتقبله في رحلة توديعها للحاضر وهي متجهة نحو الماضي الذي تتوق فيه اللقاء بشريك حياتها تعود لتجلس على سريرها تلمح من زجاج النافذة الكبيرة ذي المرايا الزجاجية كوبين الشاي مازال ممتلئان بمشروب الشاي ذي الرائحة الفريدة بانفاس شريك حياتها التي ملأت المكان وكأنه حضر لياخذها إلى العالم الذي رحل إليه تهمس متسائلة::
أين أنت،؟ لقد تأخرت كثيرا
تقلب بصرها في نواحي الغرفة كأنها تبحث عنه قائلة:
عزيزي لقد اشتقت إليك.. لم يعد لحياتي معنى بعد رحيلك
تلاعب الريح الباردة اغصان الريحان وتذاعبها فتتطاير بعضها نحو الغرفة محملة بروائح عطرها لتسقط جوار العجوز المشتاقة التي بدأت بإجراءات الرحلة ومغادرة الحاضر نحو ماضيها التي ترجوه وصدرها بين الصعود والهبوط في أشد ما يكون الزفير والشهيف وبصرها متجولا في الغرفة في بحثها عن بغيتها والريح ترتفع شدة هبوبها لتعصف باشجار الريحان وتتلاعب بأغصاتها وتعبث بأوراقها المتطايرة حاملة معها رائحتها لتعبق المكان وتضفي عليه جو من الروحانية.
يغادر الكناري الاقفاص نحو الجو الفسيح يقلب جناحية يتعثر في الطيران الذي لم يجربه إلا هذه اللحظة يقرر التراجع والعودة نحو الأقفاص الممتلئة بالطعام والماء لكن المكان على غير العادة الريحان في الأحواض أوشك أن يذبل وأروراقه قد اصفرت ورائحة المكان متغيرة والسكون أصبح علامة على اللاحياة .
الرياح تعبث بكل شيئ تتطاير ستائر النافذة الواسعة لتكشف عن جسد السيدة الساكن يقف الكناري مغردا على النافذة لكن السيدة العجوز هذه المرة لم تقترب منه يتجول طائرا حول شجر الريحان الذابلة يقف على ابواب الأقفاص فيقرر المغادرة بعيدا عن المكان يعاود المحولة في الطيران يبسط جناحيه ويقلبهما في الهواء فيصعدا عاليا نحو الفضاء الفسيح حتى يتلاشيا في الفضاء بعيدا عن المكان الذي لم يبقى فيه سوى أوراق الريحان المصفرة الذابلة
عصام مريسي