منذ الإعلان عن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022، دخلت اليمن في مرحلة جديدة من التجربة السياسية غير المسبوقة في تاريخها الحديث. إذ لم يكن هذا المجلس نتاجًا لحراك وطني أو توافق شعبي، بل جاء بقرار رئاسي مدفوع بتفاهمات إقليمية، عقب مشاورات الرياض، التي وضعت نهاية رسمية لمرحلة الرئيس عبد ربه منصور هادي، وفتحت الباب أمام صيغة حكم جماعية متعددة الأطراف.
هذه الصيغة، وإن حملت آمالًا في بدايتها على إمكانية كسر الجمود السياسي وخلق توازن بين القوى المتنازعة داخل "الشرعية"، إلا أنها في الواقع، عمّقت الانقسام، وأدخلت مؤسسات الدولة في نفق مظلم من التقاسم والمحاصصة والانقسام الجغرافي والسياسي، انعكس مباشرة على أداء الحكومة، واستقرار مؤسسات الدولة، وتماسك الكيان السياسي للبلد برمّته.
في هذا التحليل، سنقف على حجم الانقسام الذي خلّفه تشكيل المجلس الرئاسي، وكيف أثّر ذلك على شكل الدولة وحضورها، وعلى مصير مؤسساتها، وصولًا إلى السؤال الجوهري: لماذا لا يمكن لدولة قائمة على المحاصصة أن تنجح، ولماذا يتوجب أن يكون للدولة رأس سياسي واحد وكيان موحد يقودها.
أولًا، لا بد من الإشارة إلى أن المجلس الرئاسي لم يُشكّل وفق قاعدة موحدة للسلطة، بل جُمّعت فيه قوى سياسية وعسكرية متنافرة، تختلف في مشاريعها، وتتناقض في رؤاها، بل وتتقاتل في بعض الجبهات التي يُفترض أن تكون ضمن خريطة "الشرعية". هذا التباين لم يكن مجرد خلافات داخلية يمكن احتواؤها، بل كان تمثيلًا لمراكز نفوذ متوازية لا تعترف ببعضها البعض في كثير من الأحيان.
النتيجة المباشرة لذلك أن الدولة، منذ اليوم الأول لتشكيل المجلس، لم تعد دولة بمفهومها الكلاسيكي، بل باتت تمثيلًا لصيغة تحالف قلق بين أطراف محلية وإقليمية، يتحرك كل طرف فيها ضمن أجندته الخاصة، ويسيطر على مساحة جغرافية، ويملك قرارًا أمنيًا وعسكريًا مستقلًا، دون أن يكون هناك كيان سياسي جامع أو إدارة مركزية فعالة.
وقد أدى هذا الانقسام إلى ضرب جوهر الدولة في الصميم، إذ أصبحت المؤسسات السيادية، وعلى رأسها الحكومة والبنك المركزي والوزارات السيادية، مسرحًا لتقاسم النفوذ، لا أداة لتحقيق السياسات العامة أو تقديم الخدمات. فمنذ أكثر من عامين، لم تستطع الحكومة أن تسيطر فعليًا على مفاصل الدولة، ولا أن توحّد قرارها الاقتصادي أو السياسي أو الإداري، بل ظلت تتحرك ضمن هامش ضيق، تُمليه مراكز القوى داخل المجلس الرئاسي.
وأسوأ ما أفرزه هذا الوضع هو غياب صورة "الدولة الواحدة" أمام المواطن. فعدن، التي تُعد العاصمة المؤقتة، لم تعد عاصمة سياسية فعلية. فالوزراء يتواجدون فيها بشكل متقطع، والمقرات الحكومية تعمل بنصف طاقتها أو أقل، والقرار التنفيذي خاضع لاعتبارات خارجة عن مؤسسات الدولة، بل إن بعض المحافظات باتت تُدار بقرارات محلية مستقلة، في مشهد أقرب إلى "الكونفدرالية غير المعلنة" منه إلى الدولة الموحدة.
وبالنظر إلى مؤسسات الدولة، فإن حالة التقاسم داخلها باتت كارثية. لم تعد الوزارات تُدار وفق معايير مهنية أو خطط وطنية، بل وفق توازنات سياسية دقيقة، بحيث لا يمكن تعيين مسؤول في موقع حساس دون أخذ رضى هذه الجهة أو تلك، ولا يمكن تمرير قرار مالي أو إداري دون مواءمات داخلية بين أطراف المجلس الرئاسي. هذا التقاسم دمّر كل أمل في بناء مؤسسات قادرة على أداء دورها بفعالية.
ولعل أبرز مثال على هذا الانهيار هو ما جرى للبنك المركزي اليمني. فالبنك، الذي يُفترض أن يكون الجهة السيادية الأولى في إدارة السياسة النقدية للبلد، أصبح جهة إدارية لا تملك من استقلال القرار إلا القليل، وتخضع ضغوطًا سياسية من أطراف متعددة. وقد انعكس ذلك مباشرة على قيمة العملة الوطنية، التي انهارت بشكل متسارع، وفقدت أكثر من 90% من قيمتها خلال سنوات قليلة، في ظل غياب سياسات نقدية موحدة، وانقسام في مصادر الإيرادات، وعجز عن فرض الرقابة على النظام المالي.
بل إن التدخلات السياسية وصلت إلى حدٍ أجبرت فيه البنك المركزي اليمني قبل أشهر على التراجع عن قرارات مالية وإصلاحية هامة، كانت تهدف إلى ضبط المضاربة بالعملة وتعزيز الرقابة على قطاع الصرافة. هذا التراجع، الذي جاء بعد ضغوط من قوى سياسية نافذة، أظهر بوضوح أن البنك المركزي لم يعد مؤسسة مستقلة كما ينبغي، بل رهينة لتجاذبات النخب المتصارعة، ما عمّق حالة الفوضى، وكرّس الشلل الكامل في بنية السياسة النقدية للدولة.
فما الجدوى من وجود حكومة لا تسيطر على القرار المالي؟ وما معنى أن تتقاسم القوى السياسية إدارة البنك المركزي، إن كان هذا التقاسم سيؤدي إلى انهيار الريال وتضخم غير مسبوق يُثقل كاهل المواطن؟
الإجابة واضحة: لا يمكن لأي حكومة تتسم بالمحاصصة السياسية أن تنجح. فالحكومات التي تُبنى على توازنات هشّة بين مكونات متنازعة، تتحول إلى حكومات شلل لا حكومات إنجاز. الوزراء فيها يمثلون جهاتهم أكثر مما يمثلون الشعب، والقرارات فيها تُصاغ وفق قاعدة "لا يَغلب ولا يُغلب"، لا وفق المصلحة العامة. وفي ظل هذا النموذج، يتحول العمل الحكومي إلى مناورات سياسية بدل أن يكون وسيلة لتسيير شؤون الدولة.
ولا يمكن لأي حكومة أن تنجح حين يتحول كل وزير فيها إلى مندوب سياسي لطرفه، لا إلى مسؤول تنفيذي للدولة. ففي هذه الصيغة المشوّهة، يصبح الوزير أداة لخدمة مصالح حزبه، لا مصالح الناس، ويغدو التعيين في الوزارات توزيعًا جغرافيًا أو حزبيًا أكثر منه استحقاقًا إداريًا. والنتيجة أن الحكومة تتحول إلى طاولة صراع، لا فريق عمل، وتتراجع المصلحة الوطنية أمام أولويات الولاء السياسي، وتُشلّ أي إمكانية لاتخاذ قرار موحد أو تنفيذ خطة إصلاح حقيقية.
إن المحاصصة لا تُنتج وحدة، بل تُعمّق التشظي. والدولة التي تتوزعها قوى متعددة لا يمكنها النهوض، لأن كل طرف يُدير حصته كأنها دولة داخل الدولة، بل إن بعض الأطراف بدأت تتعامل مع مناطق نفوذها باعتبارها "كيانات سياسية مستقلة"، تُجري تعيينات، وتصدر قرارات، وتتحرك دبلوماسيًا، دون الرجوع إلى رأس الدولة.
وهنا نصل إلى جوهر الأزمة: غياب الرأس السياسي الواحد للدولة. فلا يمكن لأي بلد أن يخرج من أزمته دون قيادة موحدة تقود الدولة وتُحدد أولوياتها. الدولة بلا رأس تتحول إلى جسد بلا توازن، عاجز عن الفعل، سريع الانهيار. وقد أثبتت التجارب في اليمن أن كل مرحلة يغيب فيها القائد الجامع، تتآكل فيها الدولة بسرعة مذهلة.
إن الحاجة اليوم ليست إلى توزيع جديد للمناصب، بل إلى رؤية وطنية موحدة تُعيد الاعتبار للدولة، وتُنهي حالة التقاسم، وتمنح مؤسسات الدولة استقلاليتها، وتضع حدًا للفوضى السياسية التي دمّرت الاقتصاد، وأهلكت ما تبقى من الثقة العامة.
المطلوب ليس مجلسًا رئاسيًا متعدد الرؤوس، بل قيادة سياسية واحدة تُمثل الدولة، وتحمل مشروعًا وطنيًا شاملًا، وتعمل على توحيد القرار الأمني والعسكري، وإعادة الاعتبار للبنك المركزي، وتوحيد الإيرادات، ومكافحة الفساد، وتحقيق الحد الأدنى من الأداء الحكومي.
المواطن لا ينتظر شعارات ولا مؤتمرات، بل يريد كهرباء في بيته، وراتبًا في موعده، وسلعة بسعر معقول، وأمانًا في الطريق. وهذه أبسط الحقوق لا يمكن لحكومة محاصصة أن توفرها، لأنها غارقة في توازناتها، مقيدة في تحالفاتها، مشلولة في قراراتها.
وفي الخلاصة، فإن المجلس الرئاسي، بهذه الصيغة، فشل في تقديم نموذج الدولة القادرة، وتحول إلى مجلس تفاوض دائم بين أطراف لا يجمعها مشروع وطني. واستمرار هذا النموذج سيُبقي اليمن رهينة للتقاسم، ويُغيب الدولة إلى أجل غير مسمى. ولن يكون هناك أمل بالخروج من الأزمة إلا بإنهاء المحاصصة، واستعادة الدولة برأس سياسي واحد، وكيان موحد، وقانون واحد يُطبق على الجميع.