عتمة الليل وعتمة جدران غرفتها الضيقة وعتمة الإعاقة التي حلت بها بعد فقد بصرها لبرهة لكن سرعان ما يعاود وميض النور لعينيها التي فقدته بسبب الصدمة التي تلقتها في القصف الذي وقع على المبنى السكني الذي كانت تقيم به مع أفراد أسرتها حبستها في سراديب مظلمة من العجز وافقدتها القدرة لفترة من الوقت للتعايش مع الواقع الجديد الذي أحاط بها وجعلها محصورة في قوقعة العزلة والنأي عن كل ماحولها لتعيش حبيسة جدران غرفتها الباردة كبرود مشاعرها مع كل من حولها بعد أن فقدت الرغبة في الحياة وهي تلملم أشلاء أجساد أطفالها في صمت فلم تستطع إطلاق صوتها في البكاء حابسة أنفاسها بين شهيق وزفير وكفيها مخضبة بدماء صغارها تحاول أن تعيد كل عضو تمزق من جسد الصغار إلى مكانه تلهث وهي تتنقل في نواحي المبنى الذي كانت تقيم فيه مع صغارها طالبة من الأشلاء أن تستيقظ:
هيا انهضوا علينا أن نترك المكان
تناديهم بأسمائهم اسما اسما فكل واحد منهم مسمى باسم مدينة من مدن فلسطين العربية قبل أن يطمس اليهود تلك الأسماء العربية ويحولوها إلى أسماء عبرية بترتيب أعمارهم :
يافا ولدي أنت الأخ الأكبر .. هيا انهض وأحمل معك أصغر أخوتك .. نهوضك سيعطيهم دفعة للنهوض والمواصلة والأستمرار .. يافا لا تستسلم .. هيا انهض علينا مغادرة المكان اصبح غير أمن
ثم تتوجه بكلامها لابنتها وهي تجهش بالبكاء بعد صمت وانحباس صوتها من الفاجعة التي المت بها من سقوط قذائف المحتل على المبنى الذي تقع شقتهم في أحد أدواره:
ابنتي حيفا انهضي لملمي جراحي هيا انهضي حتى نغادر لكننا سنعود يوما بعد لملمت الجراح
أجساد أولادها الممزقة متناثرة في نواحي المكان ودماؤهم البريئة تطهر الأرض من دنس الطغاة تغسل غطرستهم وقذارات أحذيتهم التي دنست الثرى المقدس.
تتجول بين اشلاء اجساد صغارها تقف على خشخشة زفير أحد أبنائها الذين طالهم قصف العدوان تقترب منه وروحه تحشرج وفي همس يطلب من امه الطعام،:
أمي جائع
توجه بصرها في نواحي المكان تبحث عن لقيمات تقدمها لطفلها الجائع لا تجد شئ تقترب منه تلتقطه تمسح عن وجهه الدماء تقربه من صدرها تضع حلمة تديها في فيه عل قطرات من حليبها او حتى من عرقها الممزوج بالمقاومة والصمود يسد مابه من جوع وعطش ويعطيه جرعة امل ولكن قبل أن يمتص رشفة من حليب صدرها الذي أوشك أن يجف يلفظ أنفاسه .. لحظات يبرد جسده الذي فارق الروح تمد كلتا يديها نحو جسده تقلبه وهي تصرح:
ولدي قدس لا تموت .. انهض .. سابحث لك عن طعام.. هي انهض علينا ترك المكان.
من تحت انقاض المبنى لازالت أصوات أنين تسمع توحي بإن هناك ناجون مازالوا على قيد الحياة بخطى مثقلة تتقدم الأم المكلومة نحو الأنقاض بيديها النازفة تبحث بين الصخور عن اولادها وعينيها تفيض بدمع كلما تساقطت قطراته ارتفع أنين من تحت الأنقاض :
أمي دمعك حار .. لا تبكي.. لا تحزني
تناديه باسمه:
عسقلان .. ولدي .. كيف أنت.. هل انت بخير
مطمئنا لها:
سنكون جميعنا بخير
مازالت تجرف الصخور والتراب بكفيها الممزقتان من الجروح وهي تلهث من التعب لكن إصرارها يدفعها للمواصلة حتى تلامس كفيها جسد ولدها الذي خفت صوته وانقطعت انفاسه وبرد جسده تضع اذنها على صدره علها تسمع أنفاسه المتصاعدة بين زفير وشهيق فتسر بذلك لكن أنفاسه انقطعت وحشرجة صدره توقفت فايقنت أنه ترجل على طريق أخوته فاجهشت بالبكاء:
سقط كل اولادي صرعى .. لم يتبقى لي أحد
سقطت دموعها تترا قاطعة جسدها قبل ان تصل قطرات ماره بصدرها وبطنها تمتد كفيها نحو بطنها فتشعر بركلات جنينها الذي اقترب موعد خروجه للعالم فإلى جانب الحزن الذي فرض نفسه على كل ملامحها ارتسم وميض للامل وهي تتمتم مع نفسها في همس:
علها غزة اقترب موعد ولادتها
تغادر المكان تجرجر قدميها وقلبها معلق وبصرها نحو اشلاء أجساد صغارها التي روت دماؤهم ثرى الوطن لكن اوجاع المخاض و الولادة دفعتها للانسحاب من المكان لتتوارئ عن الأنظار حتى تضع مولودها الجديد الذي سيذكرها دائما باولادها ويبعث في نفسها الأمل ؛ تشتد الاوجاع ولا تهدأ إلا على صرخات المولود الجديد تلتقط مولدوها وبريق الامل يلمع في عينيها وهي تهمس في اذن وليدها:
لقد جئت غزة .. عندما يخرج والدك من المعتقل سيفرح بقدومك وسنعود جميعنا إلى الوطن ونلتقي بأخوتك.
من بعيد يترأى لها سواد مقبل نحو تموضعها وهم يهتفون:.
الله أكبر.. الله أكبر
تبعث ببصرها نحو الافق تدقق في الملامح وما أن يقترب السواد المزمجر من مكانها بالقرب من سلاسل الجبال التي تفصل بعض القرى عن بعضها كأسد غاضب تقف محتضة مولودها الجديد وكلما اقترب الموكب تناثرت رائحة عرق زوجها الممزوج بتراب الأرض واوجاع المعتقلات التي قضى أكثر حياته فيها وكلما اقترب الزخم بدت ملامحه واضحة ترفع صوتها بالنداء:
لقد جاءت غزة مولودنا الجديد بعينين خضراء كحبات الويتون وبشرة قمحية بلون تراب فلسطين.
مازالت طائرات العدو تجوب سماء المكان ترسل الموت لكل ملامح الحياة يسرع الأب يلتقط صغيرته وينسحبان من المكان وهو يهمس: لابد ان نحافظ على غزة التي ستكون منطلق للعودة للوطن الكبير فلسطين.
عصام مريسي