آخر تحديث :الأربعاء-29 أكتوبر 2025-02:03م
أخبار وتقارير

عقول اليمن تهاجر البلد بحثًا عن حياة كريمة

الأربعاء - 29 أكتوبر 2025 - 11:51 ص بتوقيت عدن
عقول اليمن تهاجر البلد  بحثًا عن  حياة كريمة
(عدن الغد) خاص:

كتب/ د. الخضر عبدالله :


تشهد اليمن منذ سنوات موجة هجرة غير مسبوقة للكوادر الأكاديمية نحو الخارج، في ظاهرة باتت تؤرق الأوساط العلمية وتثير قلق المجتمع بشأن مستقبل التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد. فبينما كانت الجامعات اليمنية يومًا ما حاضنة للعقول المتميزة في مختلف التخصصات، أصبحت اليوم تعاني من نزيف حاد في الكفاءات التي غادرت بحثًا عن فرص عمل تضمن لهم حياة كريمة بعيدًا عن ضغوط الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتدهورة.


عقول مهاجرة


قال الصحافي فتحي بن لزرق في منشور له عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك:" كنتُ خلال الأيام الماضية في العاصمة المصرية القاهرة بغرض إنجاز معاملة سفر إلى إحدى الدول الأوروبية.


وخلال تواجدي في المكتب المختص بهذه المعاملات، لفت انتباهي أن غالبية المراجعين من اليمنيين؛ أطباء، ومهندسون، وأصحاب كفاءات عالية في مختلف التخصصات.

شعرتُ بالحزن العميق وأنا أراجع ملفات بعضهم، حيث تضم شهادات علمية من جامعات مرموقة وخبرات عملية تمتد لسنوات طويلة.

في بلدٍ استُبدل فيه قلم الرصاص بالرصاص القاتل، والشهادات العلمية بسندات الجباية، يبدو أن أمل الخلاص بات ضئيلاً.

على مقاهي القاهرة، يجلس كثير من اليمنيين يروون حكاياتٍ موجعة عن لحظات النجاة من وطنٍ صار طارداً لأبنائه.

هؤلاء يمضون في طريقهم نحو المجهول، تاركين خلفهم بلداً ينزف عقولَه وكفاءاتِه وقدراتِه، لتبقى على أرضه فئةٌ من أنصاف المتعلمين، والجهلة، والنافذين، وأمراء الحرب.

وختم الصحافي بن لزرق تصريحه بالتعبير عن أمله في أن تستعيد البلاد أبناءها وكفاءاتها، مؤكداً أن نزيف العقول من اليمن يمثل خسارة وطنية فادحة تستوجب التوقف أمامها بجدية.


رواتب لا تكفي لسد الرمق


يعاني الأكاديميون في الجامعات اليمنية من تدهور غير مسبوق في أوضاعهم المعيشية. فمنذ اندلاع الحرب في عام 2015، توقفت رواتب الكثير منهم بشكل جزئي أو كلي، خاصة في المناطق التي تشهد انقسامًا إداريًا بين الحكومة المعترف بها دوليًا والسلطات في صنعاء. ومع انهيار قيمة العملة المحلية وارتفاع الأسعار ، أصبح راتب الأستاذ الجامعي – إن وُجد – لا يكفي لتغطية الحد الأدنى من احتياجات أسرته.


يقول الدكتور محمد القباطي أستاذ الرياضيات في جامعة تعز ، في حديثه لعدن الغد "كنت أتقاضى راتبًا يعادل 700 دولار قبل الحرب، واليوم لا يتجاوز ما يعادل 150 دولارًا فقط بعد تدهور سعر الريال. لم أعد أستطيع دفع إيجار السكن أو شراء الكتب لطلابي، فاضطررت للسفر إلى سلطنة عمان بحثًا عن عمل".

قصة الدكتور القباطي ليست استثناءً، بل تعكس واقع مئات الأكاديميين الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما البقاء في الداخل تحت وطأة الفقر والعجز، أو الهجرة بحثًا عن مصدر دخل كريم.


نزيف الكفاءات نحو الخارج


تشير تقارير غير رسمية إلى أن آلاف الأكاديميين اليمنيين غادروا البلاد خلال السنوات الثماني الماضية متجهين إلى دول مثل السعودية، سلطنة عمان، مصر، السودان، وتركيا، بل وحتى إلى بلدان بعيدة مثل ماليزيا وكندا.

هؤلاء الأكاديميون – الذين أنفقت الدولة ملايين الدولارات على تأهيلهم وتدريبهم في الخارج – أصبحوا اليوم يدرّسون في جامعات عربية وأجنبية، بينما تعاني الجامعات اليمنية من فراغ كبير في الكوادر المتخصصة.

وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور عبدالرحمن الأهدل، رئيس نقابة أعضاء هيئة التدريس بجامعة الحديدة سابقًا، أن "معدل هجرة الأكاديميين ارتفع بنسبة تزيد عن 60% منذ عام 2016"، مشيرًا إلى أن "الجامعات في بعض المحافظات فقدت أكثر من نصف كوادرها المؤهلة، خصوصًا في مجالات الطب والهندسة والعلوم التطبيقية".


التعليم العالي في مأزق


أدى هذا النزيف إلى تدهور ملحوظ في جودة التعليم الجامعي داخل اليمن. فقد أصبحت بعض الكليات تعتمد على محاضرين غير مؤهلين أو متعاقدين بدوام جزئي لسد النقص، فيما توقفت برامج دراسات عليا في بعض الجامعات بسبب غياب المشرفين الأكاديميين.


ويشير تقرير صادر عن وزارة التعليم العالي في الحكومة اليمنية إلى أن أكثر من 70% من الأقسام العلمية في الجامعات الحكومية تعاني من نقص في الكادر الأكاديمي المؤهل، الأمر الذي انعكس سلبًا على مستوى الخريجين والبحث العلمي.


يقول الطالب محمد العزي، وهو خريج من كلية الطب بجامعة عدن "نفتقد وجود الأساتذة ذوي الخبرة، كثير من الدروس يتم نقلها من الإنترنت، أشعر أننا نحصل على شهادة أكثر مما نحصل على علم حقيقي".



أسباب اقتصادية وسياسية متشابكة


تعود الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة إلى التدهور الاقتصادي الحاد، وتوقف الرواتب في عدد من الجامعات الحكومية، فضلًا عن الانقسام السياسي والإداري بين حكومتين متنافستين، ما أدى إلى تعطيل مؤسسات الدولة بما فيها الجامعات.

كما أن غياب الدعم الحكومي للتعليم العالي، وتوقف المنح البحثية، وتراجع مستوى الخدمات الأكاديمية والمخبرية، كلها عوامل دفعت الأكاديميين إلى البحث عن بيئات أكثر استقرارًا خارج البلاد.


يقول الدكتور عبدالله الصلوي، الباحث في جامعة عدن: "الأكاديمي في اليمن يعيش وضعًا مأساويًا. لا يوجد تأمين صحي، ولا سكن جامعي، ولا تقدير اجتماعي حقيقي. كثير من الزملاء يضطرون للعمل في مهن بعيدة عن تخصصهم، مثل الترجمة أو التدريس في المدارس الأهلية برواتب زهيدة".


هجرة اضطرارية لا اختيارية


الهجرة بالنسبة لمعظم الأكاديميين اليمنيين ليست خيارًا ترفيهيًا أو طموحًا نحو حياة الرفاه، بل هي وسيلة اضطرارية للبقاء على قيد الحياة.

تقول الدكتورة إيمان الحاج، أستاذة اللغة الإنجليزية التي تعمل حاليًا في جامعة مصرية خاصة: "لم أكن أتصور أنني سأغادر اليمن يومًا، لكنني وجدت نفسي عاجزة عن توفير احتياجات أطفالي. السفر كان الخيار الوحيد. اليوم أعيش باستقرار مادي، لكن قلبي ما زال في قاعات جامعة تعز التي فقدت بريقها".


انعكاسات على التنمية ومستقبل التعليم


إن هجرة الكفاءات الأكاديمية لا تمثل خسارة للأفراد فقط، بل هي نزيف للعقل الوطني الذي يُفترض أن يكون محرك التنمية.

فالأستاذ الجامعي هو من يصنع الأجيال ويقود البحث العلمي، وغيابه يترك فراغًا يصعب تعويضه. كما أن ضعف مستوى التعليم الجامعي سينعكس مستقبلًا على جميع القطاعات الإنتاجية والمهنية في البلاد.

ويحذر خبراء من أن استمرار هذه الظاهرة سيؤدي إلى انهيار منظومة التعليم العالي بالكامل خلال السنوات القادمة، ما لم تتخذ السلطات إجراءات عاجلة لإعادة الثقة والاعتبار للأكاديميين.


محاولات محدودة للإنقاذ


ورغم الصورة القاتمة، هناك محاولات متواضعة لاحتواء الأزمة. فقد أعلنت بعض الجامعات اليمنية عن برامج تعاقدية مؤقتة لاستقطاب الأكاديميين المغتربين عبر التعليم الإلكتروني أو الزيارات الأكاديمية القصيرة. كما بدأت مبادرات مجتمعية تهدف لدعم الأساتذة ماليًا عبر جمع التبرعات، غير أن هذه الجهود تظل محدودة أمام حجم المشكلة.


من جهة أخرى، تسعى منظمات دولية مثل اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى دعم مشاريع لإعادة تأهيل الجامعات المتضررة وتوفير فرص تدريب للكوادر المحلية، إلا أن استمرار الصراع يجعل من تنفيذ هذه المبادرات تحديًا كبيرًا.

نداء أخير للحفاظ على ما تبقى


في ختام هذا التقرير، يبدو واضحًا أن أزمة هجرة الأكاديميين اليمنيين ليست مجرد مسألة رواتب متوقفة، بل أزمة هوية علمية ووطنية تهدد حاضر البلاد ومستقبلها.

فإذا كانت العقول التي بنت الجامعات وغذّت العقول تغادر اليوم بحثًا عن لقمة العيش، فإن الخطر لا يكمن فقط في رحيلهم، بل في صمت من بقي دون أن يجد من ينقذ ما تبقى من التعليم في اليمن.

ويختتم الدكتور القباطي حديثه بكلمات تلخص مأساة الأكاديميين اليمنيين:"لم نغادر طمعًا في المال، بل هربنا من الجوع والخذلان. ما نريده ليس سوى وطن يحترم العلم وأهله."