ما تزال رائحة البارود عالقة في ذاكرة "المعجلة"، القرية الصغيرة الواقعة بين جبال مديرية المحفد بمحافظة أبين، والتي ذاقت في ديسمبر 2009 واحدة من أبشع الضربات العسكرية في تاريخ اليمن الحديث، حين استهدفتها صواريخ أمريكية من نوع "توماهوك" بحجة ملاحقة عناصر مطلوبة، فحوّلت القرية إلى رماد، وسكانها إلى ضحايا أبرياء بين قتيل وجريح.
ستة عشر عاماً مرّت، وما زالت المعجلة تبكي أبناءها. النساء اللواتي فقدن أطفالهن، والأمهات اللواتي لم يجدن سوى الرماد بين أنقاض بيوتهن، يروين اليوم قصصاً عن ليلة غابت فيها السماء خلف ألسنة اللهب، وصار صراخ الأطفال والماشية آخر ما سُمع قبل أن يسود الصمت الموحش.
الضربة حينها لم تفرّق بين مدني ومسلح، إذ سقط عشرات القتلى من الرجال والنساء والأطفال، ونفقت مئات المواشي من الأغنام والإبل، تاركة خلفها مأساة إنسانية ومعيشية لا تزال آثارها تتجدد كل يوم. ومع أن الحكومة آنذاك حاولت احتواء الغضب الشعبي، إلا أن ما قُدّم من تعويضات أو دعم لم يرقَ إلى حجم الكارثة، فبقيت القرية شاهدة على صمتٍ رسميٍّ مؤلم.
اليوم، ما زالت "المعجلة" تعيش في دائرة الخطر. بقايا الصواريخ ومخلفات الانفجارات لا تزال مدفونة تحت التراب، تنفجر أحياناً مع الأمطار والعوامل الطبيعية، مسببة خسائر جديدة بين حين وآخر. ويقول الأهالي إنهم يعيشون مع الخوف كل يوم، إذ تحوّلت أراضيهم إلى "حقول موت" بفعل بقايا الحديد والمواد السامة المنبعثة من مخلفات الصواريخ.
في زيارة ميدانية للصحفي نظير كندح – هي الأولى من نوعها منذ سنوات – تم توثيق حجم المعاناة التي يعيشها السكان، بدءاً من الفقر المدقع وغياب الخدمات، وصولاً إلى الأمراض المزمنة التي باتت تنتشر في المنطقة مثل السرطان ومشاكل التنفس، ويُرجّح الأطباء أن سببها المباشر هو التلوث الكيميائي الناتج عن بقايا الأسلحة.
وخلال الزيارة، التقى كندح بعدد من أهالي الضحايا وأعضاء المجلس المحلي بمديرية المحفد، الذين أكدوا أن الضربة تركت آثاراً بيئية واجتماعية لا تزال ماثلة، وأن الإهمال الحكومي المستمر جعل من "المعجلة" منطقة منكوبة، بلا مستشفى، ولا مدرسة، ولا شبكة مياه، ولا طريق يربطها بالعالم الخارجي.
يقول أحد الأهالي بصوت متهدّج: "كل ما نريده اليوم ليس تعويضاً عن القتلى، بل حياة آمنة لأطفالنا، وماءً نظيفاً، ومدرسة تحفظ لهم مستقبلهم… أما نحن فقد انتهينا يوم سقطت الصواريخ"، فيما أضاف آخر: "نخشى أن تُترك قريتنا فريسة للفقر والتهميش، لتتحول مع الوقت إلى مساحة مفتوحة لكل من يريد استغلالها تحت أي شعار أو ذريعة."
يطالب الأهالي والمنظمات المحلية السلطات في محافظة أبين بزيارة عاجلة للمنطقة، وتوجيه الدعم الإغاثي والإنساني نحو القرى المتضررة، مؤكدين أن المعجلة ليست فقط مأساة الماضي، بل مأساة الحاضر أيضاً، وأن استمرار تجاهلها جريمة جديدة بحق من تبقّى من سكانها.
وتبقى "المعجلة" رمزاً لجرحٍ مفتوح في ذاكرة أبين واليمن عموماً، جرحٍ لم تلتئم أطرافه رغم مرور السنوات، ولا تزال دماؤه تذكّر الجميع بثمن الحرب حين تُدار من بعيد، دون أن ترى الوجوه التي تُحرق، أو تسمع الأنين الذي لا يتوقف.
غرفة الأخبار / صحيفة عدن الغد