حوار : صالح البخيتي
في عمق الريف اليافعي حيث تتداخل الجبال مع الوديان، وتتعانق قبائل سرار يافع مع تاريخها العريق، يولد الرجال الذين يصنعون للذاكرة صوتاً، وللوطن معنى. هناك، في منطقة “حَمّة” بمديرية سرار بمحافظة أبين، حيث تعيش القرى على إيقاع البساطة والصبر ،خرج صوتٌ استثنائيٌّ حمل الشعر في كفه والنضال في كفه الأخرى، وكتب على صفحات العمر سيرة رجل عاش للكلمة ووقف للوطن وأمضى حياته بين القصيدة والموقف.
لم يكن الطريق أمامه مفروشاً إلا بالصعوبات فالمكان الذي نشأ فيه كان يفتقر لأبسط وسائل الحياة: لا طريق معبد ولا مكتبات ولا قاعات ثقافية ولا خدمات أساسية. ومع ذلك، فقد استطاع "أبو وعد" الشاعر يسلم عبدالله شايف أن يشق طريقه بقوة الإرادة وحدها وأن يحول فراغ الريف إلى فضاء للمعرفة وصمت الجبال إلى صوتاً شعري يهز القلوب.
من طفل يتأمل حكايات الأجداد في كهوف البادية إلى شاعر يحمل صوته إلى كواليس الأمم المتحدة… ومن مناضل شارك انتصارات ثورة 14 أكتوبر إلى مثقف يخاطب الشباب في الندوات..ومن عسكري في صفوف القوات الشعبية إلى شاعر يرفع اسم اليمن في المحافل الدولية… هذه قصة رجل صنع نفسه بنفسه، وشكل نموذجاً نادراً للمثقف الملتزم والشاعر الوطني والإنسان الذي لم تغيره المناصب ولا المشاركات، وظل يحمل تواضع الريف وقيم القبيلة وحب الوطن حتى اليوم.
في هذا الحوار الموسع نقترب من مسيرة كاملة للشاعر الجنوبي الأصيل أبو وعد اليافعي ،محاوره حول طفولته، بداياته الشعرية ودوره النضالي مشاركاته الأدبية نشاطه الاجتماعي، وما الذي جعله صوتاً وطنياً حاضراً منذُ ستة عقود.
بداية الحوار...
كيف تصف نشأتك الأولى في منطقة حَمّة؟
ج/ وُلدت عام 1952 في أسرة محافظة مليئة بالقيم والعادات الأصيلة. البيئة التي نشأت فيها كانت بسيطة لكنها غنية بالمعاني. كنا نعيش بالقرب من الجبال والسهول، وكان لكل مكان حكاية. منذُ طفولتي أحببت الشعر، وكنت أستمع لحكايات الكبار وأدوّن ما يعلق في ذهني. لم تكن لدينا مكتبات أو وسائل تعليمية، لكن كان لدينا شغف بالمعرفة وهذا صنع بدايتي.
متى اكتشفت أنك تحمل صوتاً شعرياً؟
ج/ منذُ الصغر كنت أكتب خواطر بسيطة. ومع مرور الوقت لاحظ من حولي أن لدي ميلاً فطرياً للكلمة. كنت أقرأ ما يتوفر من الكتب، وأستمع لأشعار التراث، وهذا جعلني أرتبط بالشعر بشكل كبير. ولما كبرت، صارت الكلمة بالنسبة لي مسؤولية قبل أن تكون هواية.
كيف لعبت البيئة الريفية دوراً في تشكيل شخصيتك وشعرك؟
ج/ الريف مدرسة كبيرة. الصعوبات، بساطة الحياة، الترابط الاجتماعي..كل ذلك منحني نظرة عميقة للناس وللوطن. رغم أن المنطقة تفتقر للمكتبات أو المراكز الفكرية، إلا أن التجربة نفسها منحتني حكمة الحياة. الريف أعطاني نقاء الكلمة وصدق الشعور.
هل واجهت صعوبات في سلوك طريق الشعر والثقافة؟ وكيف تغلبت عليها؟
ج/ نعم يا ابني صالح، واجهت صعوبات كثيرة. نحن نعيش في منطقة ريفية تفتقر للطريق والخدمات وشبكة الاتصالات وحتى المستشفيات. كان الوصول للمدينة يحتاج مشقة، وكان الحصول على كتاب يعد مهمة صعبة. لكني تغلبت على كل ذلك بالإرادة والعزم. كنت أبحث عن المعرفة أينما وُجدت، وأسافر في بعض الأحيان فقط من أجل كتاب أو لقاء ثقافي. الصعوبات لم توقفني بل صنعت إصراري.
كيف كانت بدايتك في النضال الوطني؟
ج/ شاركت في انتصار ثورة 14 أكتوبر، وهذا كان تحولاً كبيراً في حياتي. الثورة علمتني معنى الحرية، ودفعتني إلى أن أكتب شعراً يحمل روح المقاومة. كنت أرى أن الدفاع عن الوطن ليس فقط بالبندقية، بل بالكلمة التي توقظ الوعي. وهذا ما حاولت أن أفعله طوال حياتي.
وماذا عن تجربتك في الجانب العسكري؟
ج/ عملت في الجانب العسكري مع السلطان محمود بن عيدروس، ثم التحقت بالقوات الشعبية. الخدمة العسكرية علمتني الالتزام والانضباط. كنت أعيش بين الميدان والكلمة وكانت التجارب القاسية تمنحني دفعات إضافية لكتابة شعر وطني صادق.
هل أثرت الثورة والنضال في أسلوبك الشعري؟
ج/ بالتأكيد. الثورة شكلت جزءاً كبيراً من وجداني أصبحت كتاباتي أكثر جرأة وصدقاً، وصرت أتوجه بهموم الوطن إلى قصائدي. شعري ليس مفصولاً عن الواقع، بل هو امتداد لكل ما عشته.
شاركت في العديد من المؤسسات الأدبية… حدثنا عنها؟
ج/ حظيت بشرف الانضمام لعدة مؤسسات عربية ودولية منها الاتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب، الاتحاد الدولي للفنون والآداب التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الثقافي اليمني بصفة مستشار، ونقابة شعراء اليمن. هذه العضويات أتاحت لي التواصل مع كبار الشعراء والمشاركة في فعاليات داخل الوطن وخارجه، ومثلت بلدي في أكثر من مناسبة.
حصلت على عدة جوائز… ما أهمها بالنسبة لك؟
ج/ من أهم الجوائز التي أعتز بها: وسام الإبداع الذهبي من منتدى سحر الحروف السودان، وترس ثورة 26 سبتمبر وشهادات الشرف العليا من الاتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب، شهادة الشرف العليا من الاتحاد اليمني للشعراء والأدباء الدوليين، شهادة تقديرية من نقابة شعراء اليمن، وشهادة من القادة الصغار التابعة للأمم المتحدة. هذه الجوائز ليست مفخرة لي وحدي، بل لكل أبناء الوطن ولكل شاعر واديب مجتهد .
كيف تصف أسلوبك الشعري؟
ج/ أسلوبي مزيج بين الوطنية والإنسانية. أكتب عن الوطن، المعاناة، الظلم الأمل، والحياة. أحاول دائماً أن تكون لغتي بسيطة لكنها عميقة. الكلمة عندي رسالة ومسؤولية وليست مجرد سطور.
هل أثرت أسرتك في مسيرتك الشعرية؟
ج/ نعم. أنا متزوج ولدي سبعة أبناء (ستة ذكور وبنت). كانت أسرتي دائماً السند، وقد حرصت على تربيتهم على القيم الوطنية واحترام الثقافة والمعرفة. عائلتي جزء من قوتي وسبب استمرار عطائي.
هل شاركت في أي مُبادرات ثقافية أو برامج شبابية؟
ج/ نعم. شاركت ورشاً ثقافية وندوات للشباب تهدف إلى تعزيز الوعي، وشاركت في إعداد خطط ثقافية ضُمن الاتحاد الثقافي في الوطن. أؤمن أن الشباب هم المستقبل، وأن علينا أن نمنحهم ما نستطيع من المعرفة.
كيف ترى وضع الثقافة اليوم في بلدك؟
ج/ الثقافة تواجه تحديات كبيرة بسبب الظروف الصعبة التي يعيشها الوطن. ولكنني أرى أن الشباب ما زالوا يمتلكون روح الإبداع، وأن الكلمة اليمنية ما تزال حاضرة بقوة. نحتاج فقط إلى دعم واهتمام أكبر.
ما رسالتك للشعراء الشباب؟
ج/ أقول لهم: اقرؤوا كثيراً اكتبوا بصدق، واحتفظوا بكرامتكم الأدبية لا تجعلوا الشعر سلعة، بل اجعلوه موقفاً . الكلمة الصادقة تخلد صاحبها مهما تغير الزمن.
هل من موقف أو لحظة لا تزال عالقة في ذاكرتك خلال مسيرتك الطويلة؟
ج/ كثيرة هي اللحظات لكن أبرزها عندما تلقيت أول شهادة شرف من مؤسسة دولية. شعرت يومها أن صوت الريف في بلدي وصل إلى العالم، وأن رسالتي لم تذهب سدى.
ماذا يعني لك أن يكون صوتك مسموعاً دولياً حتى في الأمم المتحدة؟
ج/ هذا شرف كبير عندما يحمل شعري اسم وطني إلى المحافل الدولية، أشعر أنني لم أحمل القلم عبثاً. كل مشاركة دولية كانت بالنسبة لي واجباً وطنياً أكثر من كونها مشاركة شخصية.
ما الذي لا يعرفه الناس عن أبو وعد؟
ج/ ربما لا يعرفون أنني ما زلت أتعلم كل يوم. أقرأ باستمرار وأتابع الأخبار الثقافية وأكتب كلما استطعت. العمر لا يوقف رغبة الإنسان في التطور.
كيف ترى مستقبل الثقافة والشعر في مديرية سرار؟
ج/ سرار تملك كنزاً بشرياً ضخماً، فقط تحتاج إلى دعم رسمي ومجتمعي. لو أُنشئت مراكز ثقافية ومكتبات، لخرج من سرار يافع عشرات الشعراء والمثقفين الكبار .
ما دورك في المُبادرات الأهلية والمجتمعية ؟
ج/ لي إسهام كبير في المبادرات الاجتماعية، مثل إصلاح الطرق أثناء هطول الأمطار، المشاركة في الأمسيات الثقافية، الندوات والاجتماعات المحلية، وحضور الفعاليات على مستوى المنطقة والمديرية والمحافظة. كما أشارك في مناسبات الأفراح والأحزان، لأقف مع الناس في كل ظرف، وأقدم ما أستطيع من دعم وخدمة.
هل لديك كلمة اخيره تود قولها ؟
ج/ نعم أقدم شكري وتقديري لك يا ابني صالح على اهتمامك وسعيك في تناول مسيرة أبو رعد الذي كان زميلاً لوالدك رحمه الله في السلك العسكري. وأدعو الله تعالى أن يديم علينا وعليكم الصحة والعافية، وأن يحفظ وطنا الحبيب وأن تبقى الكلمة صادقة والوطن بخير.