(المقال الثاني من سلسلة: هندسة نهضوية تنقذ اليمن)
في أزمنة الانهيار والحرب، لا تُبنى الأوطان بالشعارات، بل برؤية استراتيجية تُعيد هندسة الدولة من أعماقها، وتضع يدها على مواضع الخلل البنيوي الذي أفضى إلى ما نحن فيه من حالة لا حرب ولا سلم، والفوضى التي دامت لأكثر من عشر سنوات، أنهكت المجتمع، وأعاقت التنمية، وفتّتت الدولة.
في قلب هذا الانهيار المتراكم، يقف النظام السياسي كأحد أعمدة الإشكال، وأحد مفاتيح الحل في الوقت ذاته.
النظام السياسي: من المفهوم إلى الدور الحاسم
النظام السياسي، كما نُريده، هو نظام حيّ وظيفته الحقيقية ضمان بقاء الدولة، وتحقيق الاستقرار، وإنجاز التنمية. وهو قبل ذلك وبعده، يجب أن يتحرر من التبعية للخارج، وأن يكون أداة سيادية نابعة من الإرادة الوطنية، لا مجرد واجهة لتمرير قرارات أو توازنات إقليمية.
إنه باختصار يجب أن يكون معبرًا عن المصلحة العليا للمواطن والوطن، لا خادمًا لأجندات الخارج ولا متواطئًا مع مراكز النفوذ الداخلي. وهذا التأسيس السيادي هو حجر الزاوية في أي مشروع نهضوي، وهو ما يمنح النظام السياسي شرعيته وفاعليته واستقلاليته.
غياب النظام السياسي المنتج كان البوابة للكارثة
حين تفشل الدولة في إنتاج نظام سياسي متماسك، قادر على صياغة القرارات العامة، وتلبية تطلعات المواطنين، وامتصاص أوجاعهم عبر أدوات ديمقراطية، فإن المجتمع يُدفع دفعًا إلى التطرف أو الانكفاء أو الانفجار. وفي اليمن، لم يكن الحوثي سوى أحد أعراض هذا العجز المزمن، حيث استثمر في هشاشة النظام، وتنازع مراكز القوى، وسوء تمثيل الناس، ليقدّم نفسه كبديل بقوة السلاح، لا الشرعية.
لقد فتح غياب المشروع الوطني السياسي الباب لظهور المشاريع السلالية والطائفية والمناطقية، في ظل غياب نظام قادر على تمثيل اليمنيين جميعًا، دون استثناء، وعلى صناعة القرار انطلاقًا من هموم الداخل لا أوامر الخارج.
من أجل ذلك، فإن هندسة النظام السياسي اصبحت ضرورة استراتيجية.
مشروع هندسة النهضة اليمنية والانتصار على ميليشيا الحوثي لا يمكن أن ينجح ما لم يُستعاد النظام السياسي كأداة إنتاج قرار وطني جامع. وهذا يتطلب:
بناء مؤسسات قوية ذات شرعية حقيقية لا مستوردة من الخارج أو مفروضة بالسلاح.
خلق بيئة سياسية تستوعب الجميع تحت سقف الجمهورية، دون إقصاء أو استفراد.
تطوير جهاز تكنوقراط مهني يقوم بمهام الحكومة بشكل احترافي ووطني، يتعامل مع الشعب بوصفه صاحب السلطة لا مجرد متلقٍ للأوامر.
المجتمع الواعي هو شريك في إعادة بناء النظام السياسي
ليس النظام السياسي شأنًا للنخب فقط، بل المجتمع ذاته هو مصدر الشرعية والرقابة والدفع نحو التغيير. حين يعي الناس أن مصيرهم مرهون بوجود نظام سياسي ديمقراطي، شفاف، وقابل للمحاسبة، فإنهم يدفعون باتجاهه، ويدافعون عنه، ويشاركون في تصويبه.
أما مجتمع يستبطن ثقافة الخضوع أو يسكت على قمعه وتهميشه، فإنه بذلك يخلق أرضية خصبة لانفجارات مستقبلية، تكون في الغالب أكثر كلفة ودموية، كما علمتنا التجارب اليمنية خلال العشرة أعوام الماضية ، وحتى اليوم.
النظام السياسي الفاعل هو خط الدفاع الأول عن الدولة
في معركتنا ضد المشروع الحوثي، لا تكفي البنادق وحدها، ولا يكفي كسر الانقلاب عسكريًا دون أن نقيم نظامًا سياسيًا بديلًا يضمن عدالة المشاركة وشفافية القرار وفعالية الأداء.
إن الصراع في اليمن ليس فقط مع ميليشيا، بل مع بنية سياسية عليلة هي التي مهدت الطريق لتلك الميليشيا. وإذا أردنا نصرًا مستدامًا، فعلينا أن نخوض معركة تحرير القرار الوطني من التبعية، وبناء نظام سياسي سيادي حيّ يُجدد نفسه من داخل المجتمع لا من خارجه.
هندسة النظام السياسي إذًا ليست خيارًا ثانويًا، بل هي جوهر معركة استعادة الدولة، وقاعدة الانتصار على الانقلاب، والمفتاح الحقيقي لنهضة اليمن.
،،،،،،،
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الخميس ٢٤ يوليو ٢٠٢٥م