آخر تحديث :السبت-02 أغسطس 2025-04:05م

من الحرب إلى البناء: هندسة واقعية لإنقاذ اليمن

الأربعاء - 30 يوليو 2025 - الساعة 12:03 ص
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب



المقال الثالث من سلسلة: هندسة نهضوية تنقذ اليمن)

---


تمهيد:


عشر سنوات من الحرب كانت كفيلة بكشف جوهر الصراع، وتعرية كل المشاريع الهشة، وتجريب كل السيناريوهات الكارثية التي لم تنتج سوى الخراب. فلا سلام تحقق، ولا حسم انجز، ولا دولة قامت. وبقي المواطن اليمني هو الخاسر الوحيد في معركة ضاع فيها الهدف الاساسي، واصبحت صوت الموت.


فما الذي يمنع الخروج من هذه المتاهة ؟

وما السبيل إلى إعادة هندسة المشهد اليمني بما يفضي إلى بناء واقعي ومستدام؟



---


أولًا: الحوثي.. مشروع لا يؤمن بالسلام


إن أي تصور لحل سياسي مع جماعة الحوثي يجب أن ينطلق من فهمٍ حقيقي لبنيتها العقدية وممارستها التاريخية. فهذه الجماعة لا ترى في نفسها فصيلاً سياسياً بين شركاء، بل طليعة مقدّسة تملك "الحق الإلهي" في الحكم، وتسعى لفرض وصايتها على المجتمع بقوة السلاح، مستندة إلى "نظرية الاصطفاء السلالي" التي تتناقض جذريًا مع مبادئ المواطنة والعدالة والمساواة.


لقد أثبتت التجربة أن الحوثي لا يدخل أي مفاوضات بحثًا عن حل، بل لشراء الوقت، وترتيب الصفوف، ثم العودة للحرب حين تتهيأ له الظروف. إن جوهر هذا المشروع قائم على الحرب، لا السياسة، وعلى الإقصاء، لا التعايش، وعلى السيطرة لا المشاركة. لذلك، فكل محاولات السلام معه ما هي إلا استنزاف للوقت والدماء، ولا يمكن الركون إليها كحل دائم.



---


ثانيًا: عجز الحسم العسكري في ظل تفكك الشرعية


في المقابل، فإن فكرة "الحرب الحاسمة" التي تلوّح بها بعض القوى لا تجد في الواقع أساسًا يُبنى عليه. فالحكومة الشرعية اليوم تعاني من انقسام داخلي، وفقدان للقرار السيادي الموحد، وتفكك واضح في المؤسسات، وضعف في الفاعلية العسكرية والإدارية، فضلًا عن وجود قوى داخل منظومة الشرعية نفسها تعمل على إضعافها من الداخل.


في مثل هذا السياق، فإن الذهاب نحو حرب شاملة دون بنية دولة قوية ومتماسكة، سيؤدي فقط إلى مزيد من الفوضى، وربما إلى انهيار شامل لمناطق الشرعية، وفتح المجال لتدخلات خارجية أكثر ضراوة.



---


ثالثًا: انحراف في هدف تدخل التحالف العربي في اليمن.

رغم أن التدخل العسكري للتحالف العربي قد استند في بداياته إلى شعار دعم الشرعية واستعادة الدولة اليمنية، فإن مسار الأحداث خلال السنوات الماضية يكشف عن انزياحٍ تدريجي في الأولويات، وتآكلٍ واضح في الهدف المركزي للمهمة. فقد أصبحت الاعتبارات الجيوسياسية لبعض أطراف التحالف أكثر حضورًا من التزاماتها المُعلنة، حيث برزت توجهات عملية نحو تثبيت النفوذ في المناطق الحيوية من اليمن، خصوصًا على السواحل الجنوبية والشرقية الاستراتيجية والمنافذ البحرية، وتمددت مظاهر التأثير على مفاصل القرار السيادي، عبر أدوات ضغط سياسي واقتصادي وعسكرية مورست على الحكومة الشرعية، بما أفقدها الكثير من استقلالية القرار وفاعلية الأداء.


وفي خضم هذه التحولات، تراجعت الجهود الميدانية الموجهة نحو تحرير صنعاء، وجرى تحييد جبهة الانقلاب الحوثي عن أولوية الفعل السياسي والعسكري، الأمر الذي أفضى إلى مأساة مزدوجة: بقاء الجماعة الانقلابية كقوة أمر واقع تتغذى على تآكل الشرعية، وتحوّل مناطق الحكومة إلى مربعات نفوذ تتنازعها الولاءات وتفتقر إلى مشروع وطني جامع. وهكذا، فإن استدامة الصراع لم تعد فقط نتاجًا لتعنّت جماعة الحوثي، بل أيضًا نتيجة لانحراف البوصلة وتفكك الإرادة الجامعة التي كان يُفترض أن تُفضي إلى استعادة الدولة، لا إلى تعميق حالتها المعلّقة بين اللادولة والتبعية.


—--

رابعًا: إعادة بناء الدولة من الداخل… الخيار الواقعي والرهان الاستراتيجي


في ظل انسداد الأفق العسكري وتعثر الحسم الشامل في مواجهة الانقلاب الحوثي، يغدو الخيار الأكثر عقلانية وجدوى هو التوجه نحو استراتيجية إعادة بناء الدولة من الداخل، في المناطق الواقعة تحت مظلة الشرعية، باعتبارها الحاضنة الوحيدة الممكنة لمشروع الاستقرار واستعادة الدولة اليمنية.


إن السعي الحثيث لبناء نموذج ناجز للدولة في هذه المناطق لا ينبغي أن يكون ترفًا سياسيًا مؤجلًا، بل ضرورة وطنية عاجلة، وورقة ضغط استراتيجية. فبدلاً من استنزاف الجهود في مطاردة الحوثي في جغرافيته الجبلية المعقدة، آن الأوان لمحاصرة الحوثي في مناطق سيطرته ، و لتحويل مناطق الشرعية إلى حاضنة جاذبة، تُعيد تعريف الدولة في وعي المواطن، وتبرهن عمليًا على إمكانية تشكل نموذج مختلف.


هذا المشروع يتطلب هندسة شاملة للمؤسسات تبدأ من:


إعادة تشكيل الاقتصاد المحلي وفق رؤية تنموية مستدامة، تضمن تشغيل الموارد وتحريك الدورة الاقتصادية.

بناء جهاز إداري مهني غير مرتهن للمحاصصة أو الولاءات المناطقية.

تطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية، بما يعيد للمواطن ثقته في الدولة.

فرض سلطة القانون واستعادة الأمن الأهلي وتفعيل السلطة القضائية.

إعادة هيكلة النظام التعليمي على أسس وطنية تُنتج إنسانًا واعيًا وفاعلًا.

تحفيز بيئة الاستثمار، وتقديم تسهيلات حقيقية لرؤوس الأموال المحلية والخارجية.


إن بناء نموذج "دولة حقيقية" – دولة مؤسسات وعدالة وخدمات – في المناطق المحررة، سيحوّل هذه الجغرافيا إلى قطب جاذب لبقية اليمنيين، لا ساحة منسية أو هامشية. وستصبح هذه المناطق رافعة سياسية ووطنية تسحب البساط تدريجيًا من المشروع الانقلابي، عبر تقديم بديل عملي ناجح يعكس كفاءة الدولة وشرعيتها.


---

خامسًا: الدور الإقليمي في هندسة الاستقرار اليمني


لم يعد ممكنًا استمرار السياسات الإقليمية في إطار إدارة الأزمة اليمنية وفق منطق الاحتواء والتبريد المرحلي للصراع. فالحرب في اليمن أثبتت أنها ليست فقط أزمة محلية، بل بيئة مرشحة للتدويل والانفجار الإقليمي، ما لم تُعالج بجذور استقرار مستدامة.


وفي هذا السياق، تبرز مسؤولية المملكة العربية السعودية – بصفتها الدولة الأهم في الإقليم والفاعل الأول في الملف اليمني – في الانتقال من مقاربة "إطفاء الحرائق" إلى "هندسة الاستقرار"، وذلك من خلال تبنّي مشروع متكامل لدعم إعادة بناء الدولة اليمنية من الداخل.


هذا التحول لا يتطلب فقط ضخ الدعم المالي، بل يستلزم:


تبني رؤية استراتيجية واضحة لإعادة إعمار المناطق المحررة، ضمن مشروع متكامل لبناء المؤسسات وتطوير الاقتصاد المحلي.

توجيه الدعم نحو مشاريع إنتاجية وتنموية تخلق فرص العمل وتعزز الأمن الاقتصادي.

دعم الحكومة اليمنية في استعادة وظائفها الحيوية وتعزيز استقلالية قرارها الوطني، لا محاصرته أو تفريغه.

الإشراف على تنفيذ البرامج من خلال آليات رقابة شفافة تضمن جدية الإنجاز وجودته.

بناء شراكات حقيقية مع النخب الوطنية وقوى المجتمع، بعيدًا عن الاعتماد على قوى الأمر الواقع أو الفاعلين من خارج مؤسسات الدولة.


إن المساهمة الإقليمية في صياغة الحل اليمني، تبدأ بدعم إعادة تأسيس الدولة في جغرافيا الشرعية، كخطوة ضرورية لاستعادة الوطن، وتحقيق الأمن الجماعي في الإقليم، وتكريس توازن المصالح بعيدًا عن الفوضى والمليشيات والاستنزاف.


---


خامسًا: من الحرب إلى الأمل.. معركة البناء تبدأ من هنا


إن اليمن لا يحتاج اليوم إلى مزيد من البنادق، بل إلى مدارس. لا يحتاج إلى مزيد من الشعارات، بل إلى عدالة وخدمات. لا يحتاج إلى مفاوضات لا تنتهي، بل إلى دولة تنهض من الداخل، وتستعيد ثقة الناس بها.


معركة اليمن لم تعد فقط على جبهات القتال، بل أصبحت على جبهة الوعي والبناء. ومن ينتصر في هذه المعركة، هو من يملك القدرة على صناعة نموذج ناجح في الأرض، لا من يكتفي بالحديث عن شرعية على الورق.


لقد حان الوقت لانتقال استراتيجي من هندسة الحرب إلى هندسة النهضة.

فاليمن يمكن إنقاذه، إذا وُجدت الإرادة، ورُسمت الخطة، وتم الالتزام بالبناء لا بالهدم.


✍️ عبدالعزيز الحمزة

الثلاثاء ٢٩ يوليو ٢٠٢٥م