في عام 2018، التقيتُ بها ضمن مشروع المساعدات النقدية المشروطة. كانت واحدة من المستفيدات، لكنها لم تكن كسائر من مررن بالمشروع، إذ لفتتني منذ اللحظة الأولى بحرصها على تلقي المعلومات، وسعيها الحثيث لتطبيقها. لم تفارقها ابتسامتها، يسبقها نشاطها كنسمة صباحٍ تهب على أرواح مرهقة. كانت أشبه بنحلة لا تعرف السكون، تجوب أرجاء الحياة لتجمع من كل زهرة عطراً، ومن كل تجربة حكمة.
كانت المستفيدة الوحيدة التي تحفظ تاريخ ميلادها عن ظهر قلب: مواليد عام 1975. قالت لي يوماً، بفخر وضياء يملأ عينيها:
"ابني الأكبر يدرس في كلية الطب".
وكنتُ ألتقي بالمستفيدات مرة كل شهر، والمشروع مستمر... لكن ما بدأ كعمل روتيني، تحول مع الأيام إلى ممر إنساني أطلّ منه على أرواح عظيمة، وكان روحها الأشد إشراقاً.
مع توسع المشروع ليشمل قضايا تسرب الفتيات من التعليم ومحو الأمية، اكتشفتُ أنها تدرّس محو الأمية في قريتها الجبلية منذ سنوات طويلة. حين سألتها:
"من متى تدرسين؟"
ظننتها ستقول: من عدة أعوام. لكنها أجابت بفصاحة وثقة:
"منذ 27 يناير عام 2001".
أي أنها قضت ثمانية عشر عاماً تضيء دروب النساء بالقراءة والكتابة... تحفظ التواريخ كأنها تحفظ رسائل السماء، وتعي أثر الزمن كمن يسكن فيه ويُحس نبضه.
في أحد الأيام، مرضت إحدى المستفيدات واضطُرت للسفر إلى المدينة. فسمعتها تقول:
"الحمدلله... أنا من خُلِقت ولم أخرج من قريتي، لم أعرف المدينة يوماً، ولن أفكر حتى في زيارتها".
ثم بدأت تسرد سلبيات الحياة في المدن، واحدة تلو الأخرى.
سألتها بدهشة:
"وما كان حلمك في بداية شبابك؟"
فقالت بابتسامة فيها رضا وسكينة:
"منذ وعيت على الدنيا في منتصف الثمانينات، كان حلمي أن أُكمل مرحلتي الأساسية في التعليم وأجتاز الاختبارات الوزارية... ونجحت، الحمدلله. ثم تزوجت بمن أحبّه قلبي، وأنجبت أولاداً، فكانت الحياة بهم أجمل".
كانت تحكي عن صديقات طفولتها، فتقول:
"لم يتغيرن، وكلما التقيت بهن، أشعر وكأنها المرة الأولى، وكأننا ما زلنا في ساحة اللعب، نرسم أحلاماً على جدران الزمن".
نظرت إليها، امرأة بسيطة الملامح، لكن ملامح حياتها كانت تقطر سعادة ورضى. قنوعة، حنونة، ثابتة كجبلها الذي لا يغادرها. شعرت أن اسمها الذي كانت تحمله، قد كُتب لها بدقة، فهي حقاً فائزة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
اليوم، مرّت بي صورتها. تسللت إلى ذاكرتي فملأتها بدفء لا يُحتمل. وتذكرتُ أحلامي، تلك التي كانت تكبرني بقرن...
اشتقت لصديقات الجامعة، دمعت عيناي وأنا أتذكر زميلات المدرسة، ووجدت نفسي أغرق في حزن شفيف، وأنا أواسي إحدى صديقات العمل التي تمر بوعكة صحية.
تبعثر من حولي كثيرون...
من جمعني بهم العمل، أو الصداقة، أو حتى الود العابر، تفرّقوا كأوراق خريف عجزت الريح عن لمّها.
الأقارب... الجيران القدامى... وجوه كثيرة غابت خلف شمس العمر، لم أعد أعرف عنها شيئاً.
كنت أظن الحياة بدونهم مستحيلة، والآن... أعيشها، وأقاوم، وأتذكر.
أشياء كثيرة دفعتني اليوم أن أهمس لنفسي تلك العبارة التي لطالما استوقفتني:
"ليتني لم أقرأ..."
وكأنها كُتبت لي وحدي.