في المقال الأول من السلسلة تأملنا كيف يبدأ التغيير من الداخل لا من الخارج، وأن القيادة لا تُمنح بل تُبنى عندما تتلاقى الرؤية مع فهم السنن الإلهية وتتحول إلى عادات راسخة.
في مقال اليوم، ننتقل من مرحلة التأمل إلى مرحلة التطبيق، من حالة التفاعل مع الواقع إلى اتخاذ زمام المبادرة، ومن انتظار التغيير إلى صناعته، في العادة الأولى في منهجية "العادات السبع" للدكتور ستيفن كوفي وهي "كن مبادرًا"، فهي ليست مجرد نصيحة في التنمية الذاتية، بل تعبير حي عن سنّة قرآنية عظيمة:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
أن تكون مبادرًا هو أن تتحمل مسؤوليتك الكاملة عن حياتك، عن اختياراتك وطاقتك ووقتك وأفكارك وواقعك، لا تنتظر من أحد أن يمنحك الفرصة، ولا تُلقِ باللوم على الظروف أو الآخرين، بل تبدأ من حيث أنت وتفعل ما تستطيع بإخلاص ووضوح رؤية.
في مجتمعاتنا اعتدنا على ردّ الفعل، ننتظر القرارات، ننتظر الظروف المواتية، بينما القائد لا ينتظر بل يُبادر، لا يطلب التمكين بل يزرع أسبابه، لا يبحث عن فرص جاهزة بل يصنعها. فحين أتأمل واقعنا اليمني، أرى أن ما ينقصنا ليس المشاريع بل المبادرون، لسنا في أزمة أفكار بل في أزمة عزيمة، هناك آلاف المبادرات النائمة بانتظار من يوقظ فيها روح الفعل، والمبادرة ليست ترفًا بل ضرورة، إنها لحظة ميلاد الذات القيادية حين يقول الإنسان لنفسه: أنا المسؤول، وأنا قادر على التغيير.
كل هذا لا يكفي أن تكون مبادرًا بحماسة فقط، بل لا بد أن تكون واعيًا ومدركًا لما تفعل، فالمبادرة لا تعني التحرك في كل اتجاه، بل تعني أن تبدأ من رؤية واضحة وقيم ثابتة وأولويات مدروسة. المبادرة الحقيقية تنبع من الداخل، من حالة ذهنية هادئة تعرف ما تريد وتتحمل مسؤوليته وتبني عليه خطواتها بثقة، وكما يقول ستيفن كوفي: "المبادرة تعني أن تتحرك في دائرة تأثيرك، لا أن تذوب في دائرة قلقك."
في تجربتي الشخصية، لم أنتظر الظروف المثالية، فحين أسسنا كل هذه المؤسسات بدءًا من المعهد الدولي، ثم الأكاديمية، ثم شركة عالم الأعمال، وحاضنة بناء، ثم كلية مجتمع حضرموت الدولية، لم تكن البيئة جاهزة، ولم يكن الدعم مضمونًا، بل كنت مؤمنًا أن كل خطوة مهما كانت صغيرة إذا انطلقت من نية صادقة ورؤية واضحة، فإنها ستكون حجرًا في بناء التغيير، وقد رأيت في كل تلك المحطات كيف يُبارك الله في البدايات الصادقة.
والمبادرة ليست مشروعًا ضخمًا فقط، بل هي أيضًا سلوك يومي، أن تستيقظ رغم التعب، وتنجز رغم الإحباط، وتكمل رغم قلة الدعم، وتبتسم رغم الاستفزاز، وتحافظ على نظامك رغم الفوضى، أن تختار رد فعلك بإرادتك لا بردة فعل تلقائية، هذه هي المبادرة في جوهرها، أن تكون سيد نفسك لا تابعاً لما حولك.
وهنا نصل إلى جوهر الربط بين فكر ستيفن كوفي والسنن الإلهية كما تحدث عنها د. جودت سعيد، لأن المبادرة ليست فكرة أمريكية كما يظن البعض، بل سنة كونية تعمل مع من فهمها وتسقط من جهلها، إنها قرار داخلي عميق بأن تبدأ بنفسك، وتتحمل مسؤوليتك، وتنهض من اللحظة.
إن التغيير الحقيقي لا يبدأ حين تتغير الظروف، بل حين تتغير أنت، حين تتوقف عن الانتظار وتبدأ بالحركة، حين تكف عن لوم العالم وتبدأ بإشعال شمعتك، حين تقول لنفسك بثبات: أنا البداية.
إلى الملتقى في المقال القادم، لنكمل معاً طريق التغيير.