آخر تحديث :الخميس-23 أكتوبر 2025-02:37ص

حرية مسروقة بين السجن والشهادة

الأربعاء - 01 أكتوبر 2025 - الساعة 06:12 م
أحمد حوذان

بقلم: أحمد حوذان
- ارشيف الكاتب


​في ذلك اليوم، التاسع والعشرين من سبتمبر عام 2019، لم يكن الإفراج لي نقطة تحول، بل كان فصلاً جديدًا من الحصار. عام وبضعة أشهر في الداخل كانت كافية لأستشعر برودة كل٨ جدار خلف ظهري، وأسمع صدى صمت الآلاف منّا. كنا جميعاً هناك—صحفيون، معلمون، نشطاء—حُشرنا في زنزانة الوجع على يد عصابة لم تكترث يومًا بأي وجع لأي أسرة يمنية. لقد مارسوا التعذيب باسم الزيف المطلق.

​في الليلة التي سبقت الفجر، أُخضعت لبصمات الأصابع العشر بعد عام وبضعة أشهر، ولأول مرة أُبصم هذه البصمات، وكان الزملاء يقولون لي: "إذا بصموك بالعشر، فإما خروج لك للبيت أو للمحكمة". كانوا يمنّونني بوصول عائلتي، لكن قلبي لم يطمئن لهم بعدما سمعتُ من قصص مرعبة عن تعذيبهم النفسي. الليل كان طويلاً وقاسياً، وظننت أنهم سيعيدونني إلى الظلام. في زنزانتي المُظلمة، التي لا ترى فيها أصابع يديك، سمعت همسات. سجين حديث العهد، ولد الضاوي، يسألني بلهفة عن عالم الخارج. سألني بخفوت: "هل أنت من الإنس أم من الجن؟". ابتسمتُ مرارةً وهمست: "لو كنتُ جنياً، لما كنتُ مسجوناً هنا".

​كانت قصته قمة الغدر. لقد وصل إليه الحوثيون عبر رسالة نصية بشريحة ولد خالته الذي أوصل والده إلى مأرب، ليجد نفسه متهمًا في جريمة ربما كانت سببًا في مقتل أبيه. جنّ جنونه حين سمع أنني سُجنت عامًا وبضعة أشهر، أخبرته أننا جميعاً مظلومون هنا، وأنه لا يجب أن يصدق كذبهم، وأن أي كلمة كاذبة سيقولها ستكون حبلاً يجرّه إلى المحاكم والمتاهات.

​فجأة، اقتحم الحوثيون الزنزانة. رُبطت عيناي، ونُقلت إلى "بيت التبادل" في حَدة. كان المكان فيلا جميلة، لكنها لم تكن حرية. هنالك علمت أنني على موعد تبادل فردي، وعلِمت أن أهون سجين هناك قد قضى عامين. شعرت بأن خروجي أشبه بعملية جراحية؛ أُقتلع من ألفة مُرّة جمعتني برفاق القيد. الضوء الذي تسرب إلى عينيّ كان وهجًا غاشمًا، والهواء، لأول مرة منذ عام وبضعة أشهر، كان يبدو ثقيلاً.

​كنت أخطو خطواتي نحو عالم حقيقي، والخيال يراودني بوصول أمي وزوجتي وطفلتي في لحظات. لكن كل ذلك كان سراباً. التبادل كان حلماً خطط له شقيقي البطل العملاق. كانت فرحة مكسورة، وقلب ممزق، ومعاناة لم تنتهِ، حتى الأحلام تبددت في عمق الحرية التي قد لا نحصل منها إلا على الوهم. من كنا نظنهم ملائكة قد تغيروا، بل يقيمون قدسيتك بنفس منهجية ومعتقدات، ربما خلاف الحرية لم أحصل على الامتيازات كما حصل آخرون. المقربون الأولون في الدارين قد ربما ليس على التضحية بل هناك شيئ آخر لم يكتمل.


​فرحة مكسورة وقلب ممزق


​تلك هي اللحظة التي طالما تخيلتها في سنوات سجني، أحلم بلقاء أخي الذي فارقته بعد سقوط صنعاء. كان يجب أن يكون هناك، في مقدمة الجمع، لألقي رأسي على كتفه، لأتنفس في حضنه ترياقًا لسمّ السنين. لكن للقدر كلمة أخرى.

​لم تكتحل عيناي أو عيناه ببعضهما أبدًا.

​لم أره في ذلك الجمع، فقط سمعت صوته. كان صوته هاتفياً عبر المشرف الحوثي الذي سمح له بالاتصال عبر وساطة بعد أن أعطوه رقم المشرف ووافق ليسمع صوتي. وكان ذلك الصوت هو الفرحة الوحيدة التي تحققت لي في مثل ذلك اليوم، لحظة خروجي من سجن الإرهاب الحوثي. عُدت إلى بيتي، لكن حلمي بلقائه تبدد في ساعات. أمي وزوجتي وطفلتي كانت بعيدة، ووصولي كان إلى صحراء الجوف، أول نقاط الحرية والجيش.

​لقد ذهب أخي ليحرس فرحتي الهشة، ليؤمن وجودي، ثم سقط في الجبهة. سقط أخي شهيدًا بفارق ساعات قليلة فقط من خروجي، بعد أن تأكد بقلبه وأذنيه من أنني أتنفس الهواء الحر.

​كانت تلك هي الضريبة الباهظة، الثمن الدموي لانتزاع حريتي من أنيابهم. لقد اشتريت حياتي بحياة أخي. أصبح يوم حريتي هو اليوم الذي حمل فيه قلبي جرحاً مُضاعفاً: ألم الفقد الذي لا يُنسى، ومرارة الهدية التي جاءت ملطخة بالدم.


​العهد لمن لم يخرجوا


​اليوم، حين أروي قصتي، لا أفعل ذلك بحثاً عن مواساة شخصية. أنا صوت لكل من لم يستطع الخروج. حين خرجت، لم أترك سجناً، بل تركت خلفي آلاف المختطفين الذين ما يزالون في سجون الإرهاب الحوثي، يعانون الأمرين تحت وطأة الظلم الممنهج.

​إن معاناة الآلاف هي صدى معاناتي. هذه العصابة تواصل قمعها بلا هوادة؛ ففي هذا الشهر تحديداً، رأيناهم يقومون بسجن المئات من أبناء الوطن، وكأنهم يبعثون برسالة مفادها أن آلة القمع لن تتوقف.

​لكن قصتي لم تنتهِ. فما دمت أتنفس، فإن كل كلمة أكتبها هي عهد لأخي الذي دفع الثمن الأغلى، وعهد لكل وجه ما زال محفوراً على جدران السجن. أنا لست حراً حقاً ما لم يكن جميع رفاقي أحرارًا. وإلى أن ينكسر قيد آخر أسير، ستظل فرحة 29 سبتمبر 2019 في وجداني ناقصة ومؤجلة، تذكرني دائمًا بالثمن الذي دفعناه، والذي يجب أن يُسترد.