آخر تحديث :الأحد-23 نوفمبر 2025-12:19ص

البنك المركزي على محك الثقة: خطوات جريئة لاستعادة ثقة المواطنين والتجارة في البنوك

السبت - 22 نوفمبر 2025 - الساعة 10:41 م
معاذ عبدالواحد الصبري

بقلم: معاذ عبدالواحد الصبري
- ارشيف الكاتب


في خضم الأزمات الاقتصادية والمالية، تتحول الأنظار نحو البنك المركزي بصفته حارس الاستقرار النقدي والملاذ الأخير لثقة الجمهور.


لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: هل يستطيع البنك المركزي كسب ثقة المواطنين والتجارة بالبنوك التجارية والإسلامية على حد سواء؟


الإجابة ليست بسيطة، ولكنها ممكنة عبر خطة استباقية شاملة تعالج جذور الأزمة وليس أعراضها فقط. الثقة في القطاع المصرفي ليست كمالية، بل هي العمود الفقري لأي اقتصاد. بدونها، تتجمد التعاملات، ويهرب رأس المال، ويدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة من الركود.



بعد عشرسنوات من التدهور المالي، وتعثر البنوك، واحتجاز الودائع، وغياب الرقابة الحقيقية، جعلت الثقة عند المواطنين والتجار بالنظام المصرفي في أدنى مستوياتها, حيث تواجه البنوك التجارية والإسلامية في الوقت الراهن أزمة ثقة عميقة ومتصاعدة، تشلّ الحركة الاقتصادية وتعيق استمرار الدورة النقدية بشكل طبيعي. في قلب هذه الأزمة يقف البنك المركزي، الذي يقع على عاتقه المسؤولية الكبرى ليس فقط في الإشراف النقدي، بل في استعادة العلاقة المفقودة بين المواطن وماله المودع، وبين التاجر ومؤسسته المالية. السؤال الأهم اليوم هو: هل يمتلك البنك المركزي الأدوات والإرادة لكسب ثقة المواطنين والتجارة؟ والإجابة تكمن في قدرته على تبني وتنفيذ خطوات جذرية وشفافة.



فيما يلي خارطة طريق مقترحة، تمزج بين الإجراءات الفورية والإصلاحات الهيكلية طويلة الأمد، ليعيد البنك المركزي بناء جسر الثقة مع المجتمع.:

1. الإطار القانوني: حماية حقوق المودعين هي الأساس:

تعد النقطة الأولى حول عمل نماذج قانونية موحدة ومُلزِمة لجميع التعاملات البنكية (دليل) حجر الزاوية ، يجب أن تكون عقود الودائع الجارية والادخارية واستثمارات التمويل الإسلامي واضحة، وخالية من الغموض، وهذه النماذج يجب أن تكون واضحة وغير قابلة للتأويل، وتصون بشكل قاطع وكامل حقوق المودعين. إن غياب الوضوح القانوني هو أرض خصبة للاهتزاز والتهرب، وتوحيد هذه العقود هو أول ضمانة لاستعادة الثقة, و هذا يخلق بيئة من الثقة، حيث يشعر المودع بأن أمواله محمية بموجب عادل وواضح، وليس بفضل من البنك.


2. الاحتياطي القانوني: درع السيولة المؤقت:

في الأوقات غير العادية، تتطلب الإجراءات غير العادية. إن رفع نسبة الاحتياطي القانوني للودائع إلى نسبة مرتفعة (مثل 30%) في الوقت الحالي وحتى انتهاء الأزمة، هو خطوة احترازية بالغة الأهمية. هذا الإجراء يهدف إلى تجميد جزء أكبر من السيولة في البنك المركزي كـ "درع أمان"، مما يمنح المودعين والتجار شعوراً بالاطمئنان بأن جزءاً كبيراً من أموالهم محصّن ضد مخاطر الإفلاس أو التعثر, و لكن هذا الإجراء يجب أن يكون مؤقتاً، يرافقه خطة واضحة لتخفيض النسبة تدريجياً مع عودة الاستقرار إلى السوق.

3. إلزامية الدفع: لا تهرب من الودائع الجارية:

المعيار الذهبي لأي نظام مصرفي هو قدرة المودع على سحب أمواله "عند الطلب" من الودائع الجارية. و على البنك المركزي إلزام البنوك بشكل صارم بإعادة الودائع الجارية للمودعين عند الطلب وعدم التهرب من ذلك تحت أي مبرر، وتطبيق عقوبات رادعة على أي مؤسسة تحاول الالتفاف على هذا المبدأ الأساسي. إن السماح للبنوك بالتهرب من هذا الالتزام يحوّل البنوك من مؤسسات ائتمانية إلى صناديق مغلقة تفتقر لأبسط مقومات العمل المصرفي.

4. التدخل لإنقاذ المنظومة: مسؤولية البنك المركزي تجاه الاستقرار:

على البنك المركزي أن يتحمل مسؤوليته كاملة في الحفاظ على المنظومة النقدية ككل. هذا يعني التدخل السريع للحفاظ على البنوك المتعثرة والتي أوشكت على الإفلاس من خلال ضخ السيولة الكافية لدعمها بشكل مؤقت. لكن هذا الدعم يجب أن يكون مشروطاً بـ تشكيل لجنة لدراسة تلك البنوك من النواحي الإدارية والمالية والفنية، وتكليفها بوضع حلول هيكلية مستدامة، وإجراء تغييرات إدارية صارمة إذا لزم الأمر، لضمان عدم تكرار التعثر.

والتأخر في المعالجة لن يؤدي إلا إلى انفجار مالي ستكون كلفته مضاعفة, وإنقاذ هذه البنوك ليس خدمة لها، بل حماية للدورة النقدية وللاقتصاد كله.

5. الرقمنة والربط الشامل: بوابة المستقبل لسهولة التعامل:

نحن في عام يعيش فيه العالم على أنظمة ربط مصرفية متكاملة، ولا يمكن للاقتصاد الحديث أن يستمر بالاعتماد على التداول النقدي والبيروقراطية الورقية. إن الإسراع في عمل المنظومة الرقمية الشاملة التي تربط بين البنوك فيما بينها، وكذلك ربط البنوك بجميع المؤسسات والهيئات والجهات الحكومية، هو ضرورة ملحة. هذا التحول الرقمي يسهل التعاملات المالية، من دفع الضرائب والرسوم، إلى عمليات الشراء والبيع، مما يعيد السيولة إلى البنوك ويسهل دورانها، ويقلل من الحاجة إلى التعامل النقدي المرهق، ويعزز الشفافية.. التحول الرقمي ليس مشروعًا تقنيًا… بل إعادة إحياء للقطاع المصرفي.


إن استعادة ثقة المواطنين والتجارة بالقطاع المصرفي ليست مهمة سهلة، بل هي عملية جراحية تتطلب قرارات شجاعة وتطبيقاً صارماً. على البنك المركزي أن يدرك أن استقراره المالي هو استقرار الوطن، وأن تحقيق هذه النقاط الخمس هو الخطوة الأولى والأساسية نحو إعادة بناء الجسور المنهارة بينه وبين الجمهور الاقتصادي.


عندما يشعر المواطن بأن وديعته محمية بقانون واضح، وبأن بنكه يفي بالتزاماته، وعندما يرى التاجر أن النظام المالي يتعامل بفعالية وشفافية، عندها فقط تبدأ عجلة الاقتصاد في الدوران من جديد، وتتحول الثقة من أمنية إلى واقع ملموس.



بقلم: معاذ عبدالواحد الصبري – نقيب المحاسبين- رئيس مركز المستشارين اليمنيين