يكشف الرئيس الأسبق علي ناصر محمد في مذكراته وحواراته مع القيادات الشمالية عن كثير من التفاصيل السياسية الدقيقة التي رافقت أحداث يناير 1986م وما تلاها من محاولات لتحقيق الوحدة اليمنية. ويعكس هذا الحوار جانباً من التوترات، التباينات، وكذلك فرص التقارب التي كادت أن تُنجز الوحدة قبل الموعد المعروف. في ما يلي مقتطف مطوّل من حديثه مع الرئيس، بحضور العقيد علي محسن الأحمر، حيث يستعرض ناصر مسار الأحداث ورؤيته للوحدة والمواقف المتباينة من الأطراف المختلفة.
البداية: استرجاع أحداث يناير 1986م
يقول الرئيس الأسبق علي ناصر في حديث مطول:"ومع الأخ علي محسن الذي أتعبناه بمشاكلنا. قال: تفضل. قلت: سأبدأ الحديث من يناير 1986م، وحتى الآن.
وعرضتُ له ما واجهناه من مشاكل وصعوبات وخلافات، بعضها بسبب الحالة النفسية لبعض القيادات التي التحقت بنا في يناير 1986م، وبعضها بسبب الضغوط النفسية والمالية التي تواجهنا بسبب تدفق الآلاف من الهاربين من جحيم بعض حكام عدن، وبعضها من صنعكم أنتم، ولو وقفتم معنا أثناء الأحداث لحُسمت الأمور، ولو قبلتم بالوحدة قبل الأحداث، لتجنبنا ما حدث، ولو تدخلتم عسكرياً معنا، كما وقف منغستو هيلا مريام، لحُسمت الأمور بساعات وبأقل خسائر، ولكانت قد تحققت الوحدة اليمنية، لكنكم تركتم عدن تحترق ونحن ندفع الثمن حتى اليوم. وأضفت: نحن اليوم نريد وحدة اليمن على أساس ورقة العمل التي اتُّفق عليها معكم عام 1987م، وعلى أساس دستور دولة الوحدة، أو مع حكام عدن على أساس برنامج المصالحة الوطنية ودستور دولة الوحدة، ونحن سنبارك هذه الوحدة، ولا نشترط أن يكون لنا موقع فيها إذا رضيتم بذلك، لأن قيام الوحدة سيحلّ مشاكل اليمن في الشمال والجنوب، سواء للسلطتين، أو المعارضة في الشمال والجنوب. وأضفت: وقيام الوحدة انتصار لتضحيات الشعب اليمني.
أجواء انهيار عدن ومحاولات الوساطة
ويؤكد الرئيس السابق ناصر ويقول:" أنّ أحداث يناير قد فتحت الباب واسعاً أمام الوحدة، فالشعب مع الوحدة اليمنية بعد الذي صار في يناير 1986م. وقلتُ: إنني علمتُ أنّ سالم صالح يطلب اللقاء معكم بعد زيارته الفاشلة لموسكو، وبعد أن رفض المسؤولون في موسكو استقباله أو تقديم أيّ دعم للنظام في عدن بعدما رفع غورباتشوف يده عن عدن وعن كل حلفاء موسكو في إثيوبيا وأفغانستان وليبيا والجزائر وكوبا وأنغولا وموزمبيق وغيرها من البلدان في آسيا وإفريقيا والكاريبي وأميركا اللاتينية. كما أخبرته عن رسالة أخرى بعث بها حيدر العطاس مع خالد باراس الذي وصل صنعاء للاشتراك في اجتماع للسلم والتضامن وقابلته في منزل محمد عبد الله البطاني والذي نصح باللقاء مع العطاس، وقال خالد باراس: إن حيدر العطاس يعلم أن سالم صالح له علاقة بي وأنه طلب مني أن أرتب له لقاء مع الرئيس وتساءل لماذا لا يكون حيدر باعتباره رئيساً مرناً وصديقاً للبيض هو المحاور.
اللقاء الصريح والأسئلة الحساسة
وزاد الرئيس ناصر وقال:" واستخلصت من ذلك أن الظروف مهيأة، وأن الوضع في عدن بدأ ينهار وقلت للرئيس إنه غير جاد في قضية الوحدة اليمنية وذكرته بلقائنا الأول عام 1979م ، عندما زرت صنعاء وطلبت منه تحقيق الوحدة، فقال: لو وافقتُ عليها الآن في هذا الطابق من المكان (وكنا في مقرّ القيادة العامة)، لبدأ القتال من الدور الثاني الذي ينتظرنا فيه مجاهد أبو شوارب، ولهذا نصحت بعدم الاستعجال. ضحك وقال: هذا صحيح، فلا مجاهد يريد الوحدة، ولا الشيخ الأحمر ولا السعودية. قلتُ له: هذا ملخص حديثي معك. أجاب: قبل الرد عليك أريد أن أسألك بصراحة وترد علي: هل تعتبر أنني خنتك أو خذلتك في 1986م؟ هل منغستو أكثر وفاًء مني معك؟ هل ما زلتَ تؤمن بالحزب الاشتراكي اليمني وببرنامجه وأهدافه الشيوعية؟ هل ما زلتَ تؤمن بالاتحاد السوفياتي والصين وحركات التحرر العربية والشيوعية؟
- الشيخ الأحمر يقول إنك منذ وصولك إلى صنعاء لم تهاجم الاتحاد السوفياتي والشيوعية في العالم، وإنّ السعوديين عندهم الانطباع ذاته، وقال: إنّ التجمع القومي بقيادة عبد القوي المكاوي ومحمد علي هيثم وحزب الرابطة يهاجمون الشيوعية في عدن والقواعد السوفياتية في سقطرى.
- قلتُ: ما دمت تكلمت بصراحة، فأنا أسألك بصراحة قبل الرد على القضايا التي طرحتها، وكان العقيد علي محسن الأحمر كالصقر يراقب ويتابع هذا اللقاء الصريح بيني وبين الرئيس، وهو صامت كعادته، فهو قليل الكلام كثير الفعالية، ولكنه لا يسكت دائماً إذا شعر بأنه يجب أن يتدخل ويتحدث، ففيه نوع من التواضع والأدب والشجاعة في الرأي والثقة بالنفس. استأذن لدخول الحمّام الذي يقع خلف باب المفرج الرئيسي، وعاد فقدّم استعداده العسكري بضمّ رجليه، ويداه على فخذيه، وكأنه في طابور عسكري في انتظار الإشارة له بالدخول والجلوس، كما هي عادته وعادة بعض الذين علّمهم علي صالح إظهار الاحترام له والاهتمام به أمام الآخرين، حتى وإن كان هناك خلاف أو تباين في وجهات النظر كانوا لا يظهرونه، بل يحسم في "مجلس العائلة" في لقاءاتهم الخاصة، حيث يقيمون نشاطهم اليومي والأسبوعي والشهري، ويرسمون خططهم الجديدة للتعامل مع الآخرين حسب تقويمهم للأشخاص ورغباتهم وطموحاتهم وتطلعاتهم.
وقف صنعاء من التدخل العسكري
ويتابع ناصر حديثه:"وبعد جلوس علي محسن، كان عليّ الرد على الأسئلة والملاحظات التي طرحها الرئيس بهذا الوضوح والصراحة لأول مرة منذ وصولنا إلى هذه المدينة التي يصعب على الإنسان أن يسبر أغوار سكانها وحكامها، فهي مدينة أتعبت كل الحكام والغزاة عبر التاريخ. بدأتُ بالحديث عن سؤاله عن أحداث يناير 1986م، فقلتُ له: لا أريد أن أنكأ جرحاً بعد أربع سنوات على هذه الأحداث المؤلمة التي فتحت الطريق واسعاً أمام الوحدة اليمنية، سواء أثناء الأحداث أو بعدها وحتى اليوم، فالكل كان يعتقد أنّ صنعاء كان يمكن أن تتدخل لمصلحة الوحدة اليمنية، لا لمصلحة طرف ضد آخر، وكل ما عرفته بعد وصولنا إلى صنعاء في أثناء الأحداث وفي وجودنا بمكيراس أنكم قررتم عدم التدخل، لأن المنتصر فينا سيكون مهزوماً، وسيأتي إلى صنعاء رافعاً الراية البيضاء، ورفضتم مساعدات إثيوبيا وليبيا والجزائر وبعض الدول الشقيقة الأخرى.
أنتم لا تقولون "لا"... ولكنّكم لا تنفّذون كلمة "نعم"
وكنتم تعدون بأنكم ستقفون إلى جانبنا، وتماطلون في تنفيذ ما وعدتم به، فأنتم لا تقولون (لا)، ولكنكم لا تنفذون كلمة (نعم)، وكأنكم لا تعنونها حين تقولونها! وأتذكر أننا التقينا في مرتفعات مكيراس على حدود محافظة البيضاء مع عبد الله البشيري (رئيس الأركان) وحمود عاطف وأحمد حسين العزاني الذي كُلِّف التنسيق مع المسؤولين في أبين، ووعدوا بأنهم جميعاً سيحركون بعض الدبابات والمدافع لإسقاط مكيراس، إحدى بوابات المحافظة إلى عدن، فالطريق من مكيراس والضالع هو الطريق إلى عدن، حتى وإن طال الزمن وانتظرنا الليلة الأولى والثانية والثالثة ولم تنطلق طلقة واحدة وعدن التي كانت تنتظرنا تحترق، وعندها شعرت بأننا هُزمنا وأننا نقاتل وحدنا بعد رفضكم المساعدة الإثيوبية العسكرية لنا، وبعد أن قلتم: "لا" للوفد العسكري الإثيوبي الذي أرسله الرئيس منغستو مع عدد من الخبراء في الإشارة والاتصالات اللاسلكية. لا أريد أن أدخل في تفاصيل ما جرى بينكم وبين المناضل أبو إياد الذي وصل إلى عدن وهو يحمل مقترحات مهمة بخطّ يدكم بشأن ما يجري في عدن. وهنا، تصاعد الدم إلى وجهه وحكّ بأصابعه الأربعة خدّه الأيمن، وحدّق نحوي وكأنه يطالبني بعدم الاسترسال، بينما كان علي محسن الأحمر يراقب هذا الموقف. قلتُ: سأكتفي بالردّ على سؤالكم الأول، أما عن سؤالكم الثاني بشأن منغستو، وإن كان أكثر وفاءً منكم، فأنا لا أقارن بينكم وبينه من حيث القربى والدم، لكن مقارنتي كانت في الموقف من أحداث يناير.
مقارنة بين منغستو وصنعاء
والحكمة اليمنية تقول: الصديق وقت الضيق، فلهذا قلت إنه أكثر وفاءً من الآخرين. فقد وقف منغستو معنا واستنفر أكثر من 15 ألف مقاتل من القوات الجوية والبحرية والبرية، وبعضها تحرك إلى باب المندب، وتحدى منغستو الاتحاد السوفياتي الذي نصحه بعدم الدعم والمساندة، بينما كان بحاجة إلى موسكو في حروبه مع الإريتريين والسودان والصومال وحروب العصابات الأخرى في شرق البلاد وغربها. لهذا، قلت: لقد كان منغستو وفيّاً معنا، وتحدى الاتحاد السوفياتي وحكام عدن.
لحظة استراحة في صنعاء
وأردف الرئيس ناصر قائلا:" ضحك الرئيس صالح معلقاً وقال: لأنه شيوعي! أجبت: هذا غير صحيح. بل لأنه صديق وحليف وفيّ، وأنت تعرف أنّ السوفيات وأصدقاءهم في أديس أبابا هم الذين دبّروا الانقلاب عليه عام 1988م، بينما كان في زيارة لألمانيا الديمقراطية، فهم يعدّونه قائداً وطنياً، بل يرونه قومياً شوفينياً، وليس أممياً، وهذا ما كان يردده أعداء الرئيس منغستو. وهنا سكت الرئيس ولم يعلِّق.
اللحظة السليمانية
وختتم ناصر حديثه:"وتابعتُ: علينا الآن أن نكتفي بالحديث عن منغستو، وأن ننتقل إلى سؤالكم الثالث. ألتفت نحوي وكأنه يريد استراحة من هذا الكلام والصراع الذي لم يتعوده في مجالس القات. كانت الشمس قد غابت عن صنعاء خلف جبالها، وبدأت أنوارها من بعيد قبل أن تتزين شبابيك منازلها بألوان مختلطة من الأضواء، وكانت فتحة في النافذة العليا لا تزال تستقبل أشعة ضوء الشمس عند المغيب، وكنا لا نزال يبصر بعضنا بعضاً بوضوح، فالرئيس كان يجلس في الركن الجنوبي، وأنا في الركن الشمالي، والعقيد علي محسن على يساري في الجانب الجنوبي. قال الرئيس: حان وقت الساعة السليمانية، وشرح ماذا تعني اللحظة السليمانية بالنسبة إلى صنعاء وطقوسها، وقال إن الجنوبيين قد أفسدوا الطقوس الصنعانية للقات، كما أفسدوا على سكان عدن عاداتهم وطقوسهم، وضحك. فقلتُ له: لا فرق بيننا وبينكم، فأنتم أيضاً أفسدتم على سكان صنعاء عاداتهم وطقوسهم. حاول علي محسن أن يستفيد من هذه الاستراحة وهذا الحديث عن الساعة السليمانية وخرج، وشعرت بأنه كان يريد أن يصلي ويعود بعدها لمواصلة الحديث المهم، وبعد هذه الاستراحة القصيرة بعيداً عن السياسة عدنا لمواصلة الحديث عن الحزب الاشتراكي.