تحولت الرحلات البرية بين اليمن ودول الجوار إلى مقامٍ لخطر يوميّ يلاحق المسافر الفقير قبل حقائبه: حافلات متهالكة، سائقون مرهقون، طرق جبلية بلا صيانة، وطبقة ثالثة من المخاطر أقل ما يقال عنها أنها إجرامية — تهريب الوقود عبر استحداث خزانات إضافية داخل المركبات. هذه الخزانات التي تُخزن سرّاً أسفل المقاعد أو في حيز الأمتعة، أو تُلحم على الهياكل بطريقة بدائية، ليست مجرد مخالفة: هي قنبلة قابلة للاشتعال في أي لحظة، وتزيد من احتمال اشتعال النيران وانتشارها بسرعة في حال وقوع حادث، كما حصل في فاجعة العرقوب.
الواقع على الأرض يفيد أن شبكة معقّدة من المصالح تدفع ببعض السائقين والشركات إلى مخاطرة سلامة الركاب في سبيل الربح السريع. فبدلاً من نقل الركاب فقط، أصبحت بعض الحافلات وسيلة لنقل كميات كبيرة من الوقود المهرّب والدخان والبضائع المهربة، بواسطة خزانات إضافية تُركّب بطرق سرّية داخل الحافلة أو تحت هيكلها، ما يضاعف الحمولة ويغيّر من توزيع الوزن ويؤثر سلباً على ثبات المركبة وقدرتها على التوقف الفعّال.
ممارسة تركيب خزانات إضافية ليست جديدة في مناطق حدودية غابت فيها الرقابة الفعلية؛ لكنها تَصاعدت مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وازدياد الطلب على الوقود المهرّب. هذه الخزانات غالباً ما تكون دون أي معايير أمان: لحامات رديئة، أنابيب وموصلات غير محكمة، صمامات بدائية، ومواقع تركيب تقرع ناقوس الخطر عند أول شرارة. إضافة إلى ذلك، يقوم بعض المهربين بتعديل خزان الوقود الأصلي أو ربط الخزانات البديلة بنظام إمداد المحرك بطرق احترافية ناقصة الأمن، ما يجعل الحافلة بمثابة مستودع وقود متحرك.
حادثة العرقوب التي التهمت الحافلة بسرعة كبيرة بعد الاصطدام أظهرت بوضوح مخاطر هذا النمط من التهريب: اشتعال سريع للنيران، انبعاث ألسنة لهب من أماكن غير متوقعة، وغلق الأبواب نتيجة انصباب الوقود وتحوله إلى نار لا يُمكن إخمادها بسهولة في مواقع نائية. وفي ظل ضعف فرق الإنقاذ وتأخر وصولها لسنوات بسبب وعورة الطريق، تتحول حوادث صغيرة إلى مآسي كبيرة.
المسألة هنا تتعدى مجرد انتهاك لقيود النقل أو مخالفة لرسوم التهريب؛ إنها تهديد مباشر للحياة العامة. الخزانات الإضافية تُبدّد أي فكرة عن سلامة الركاب، وتحوّل الحافلات إلى عبوات ناسفة تسير على عجلات. ومن يركب هذه الحافلات غالباً لا يعلم أن المقعد تحت قدميه يخفي خزاناً للوقود، وأن أي اصطدام بسيط قد ينهي حياته أو يحول جسده إلى كومة محترقة.
في مقابل هذا المشهد، يظل غياب الرقابة الحكومية فاضحاً: التفتيشات السطحية، التصريحات الرسمية بأن الحافلات «مرخّصة ومطابقة للمواصفات»، وتحويل التحقيقات إلى بيانات متكررة بلا نتائج معلنة. كما أن تعدد السلطات المحلية واختلاف اختصاصاتها في مناطق متفرّقة جعل من تطبيق القوانين أمراً مستحيلاً عملياً. الشركات التي ترفض الامتثال تُستبدل بأخرى، والسوق المفتوح للتهريب مستمر، لأن الربح يفوق المخاطر.
الحل لا يبدأ فقط بتجريم التهريب، بل بتفكيك الاقتصاد الموازي الذي يغري السائق والمشغّل على حد سواء. إجراءات عملية يجب أن تُنفّذ فوراً: فحوص فنية إلزامية ومفاجئة لكل حافلة على طرق الحدود، تفتيش شامل لمقصورات الأمتعة وتحت هيكل المركبات بحثاً عن خزانات إضافية، تركيب أجهزة إنذار للكشف عن محاولات التلاعب بخزانات الوقود، وحصر ترخيص الشركات على من يثبت امتثاله لمعايير السلامة. كما يلزم فرض عقوبات رادعة على الشركات والسائقين الذين يُستخدمون وسائل نقل الركاب كممرّات للتهريب، بما في ذلك سحب التراخيص وإحالة المتورطين للقضاء الجنائي.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال البُعد الاجتماعي والاقتصادي: آلاف اليمنيين لا يملكون خياراً بديلاً عن تلك الحافلات رخيصة التكلفة، فرفع مستوى الأمان ينبغي أن يرافقه توفير بدائل نقل معقولة وبأسعار يُحتملها المواطن. ولهذا، يتطلب الأمر تدخل الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية للمساهمة في إعادة تأهيل خطوط نقل آمنة، ودعم نقاط التفتيش الفنية، وتأهيل الكوادر المحلية للمراقبة والفحص.
يجب أن تكون مأساة العرقوب نقطة تحوّل حقيقية. إيقاف شاحنات التهريب وخزانات السر في الحافلات ليس ترفاً تشريعياً بل ضرورة لإنقاذ الأرواح. المواطن اليمني الذي يركب حافلة بحثاً عن لقمة أو دواء أو فرصة عمل لا يستحق أن تُقلى روحه في مقصورة تعبق بالوقود المهرب. على الجهات الرقابية والحكومية أن تختار: حماية الناس أو السماح باستمرار «رحلات الموت» تحت غطاء الربح والتهريب.
غرفة الأخبار / صحيفة عدن الغد