كتب/د. الخضر عبدالله :
عند الفجر، حين لا يزال الليل يضمد آخر جراحه، ينهض الحاج أحمد دبوان حسن، ابن ال 60عامًا، من فراشه في غرفة الصغيرة جعل منها مقهى للشاهي والقهوة استأجرها في سوق الخضار والفواكه بمدينة الشيخ عثمان بعدن.
يمد يده المرتجفة قليلًا نحو إبريق الماء، يغسل وجهه، ويتهيأ ليوم جديد يشبه سابقه، كأنه يعيد تكرار الشريط ذاته منذ 26 عامًا. يفتح أبواب مقهاه قبل أن تستيقظ المدينة تمامًا، يمشي ببطء طاولات مقهاه المتواضع، ذاك الذي صار يشبهه في البساطة والهدوء والصبر.
الحاج أحمد، القادم من محافظة تعز – شرعب الرونة، لم يحصل يومًا على وظيفة حكومية، ولم يملك رأس مال يمنحه انطلاقة كبيرة. لكنه امتلك شيئًا ظل أثمن من كل ذلك: قلبًا يعرف معنى المسؤولية ويدًا لا تتوقف عن العمل ما دام في العمر بقية. ومن أجل أسرته الكبيرة، قرر أن يطرق أبواب الرزق البسيطة، فكان المقهى الصغير هو نافذته نحو الحياة.
في زاوية سوق السوق المزدحم بالمارة، يقف مقهاه: باب خشبي قديم، طاولة من الخشب، ابريق شاي ( كتلي) اسود من كثرة الاستخدام، رائحة القهوة السمراء التي تملأ المكان دفئًا لا يتناسب مع ضيق المساحة. حين يفتح أحمد باب المقهى مع أول خيط ضوء، يبدو كأنما يفتح صدره للرزق، وللأمل، وللغد الذي ينتظره خارج حدود تعبه.
يقول أحمد وهو ينظر إلى أبريق الشاي:"لا كسبان ولا خسران… هكذا هو الحال. نعيش… والحمد لله."
جملة موجزة تختصر سنوات طويلة من الصبر. فهو يعمل بلا توقف كي يرسل ما يحصل عليه إلى أسرته التي تعيش في شرعب الرونة. زوجته وأطفاله الثمانية كانوا —ولا يزالون— يتكلون على ما يستخرجه من هذا المقهى الصغير: خمسة بنات وثلاثة أولاد، أكبرهم بدأ يعين الأسرة، وأصغرهم ما يزال يطرق أبواب المدرسة أحلامًا بالحياة.
ورغم أن المقهى يقدم فقط الشاي والقهوة، إلا أن رواده يشعرون وكأنهم يزورون بيتًا، لا متجرًا. فالحاج أحمد لا يقدّم المشروبات بيديه فقط، بل بروحه وتعبه وابتسامته. يعرف تفاصيل زبائنه واحدًا واحدًا؛ يسأل عن أحوالهم، يشاركهم أفراحهم الصغيرة، ويستمع لشكواهم العابرة. لا يحتاج الرجل إلى لافتة كبيرة فوق الباب، فابتسامته وحدها هي العلامة التجارية.
يقول أحد زبائنه الدائمين:
"نأتي لهذا المكان ليس فقط من أجل الشاي… نأتي من أجل هذا الرجل. فيه شيء يذكّرنا بالطيبة التي ضاعت."
لم يكن طريق أحمد سهلًا. فالسفر من تعز إلى عدن بحثًا عن لقمة العيش كان قرارًا ثقيلًا، خاصة مع ترك أسرته خلفه. لكن الحاجة أقوى من الحنين، وواجب الأب أقوى من شعور الوحدة. لذا ظل يعمل، عامًا بعد عام، في كل صباح يضع أمامه هدفًا واحدًا: إرسال المال لأسرته مهما كان قليلا.
يقول أحمد بصوت خافت:"يا ابني… لو ما أشتغل من يأكّل أولادي؟ العمل شرف… ولو بالشاي والقهوة."
ورغم هذا التفاني، لا يزال دخل المقهى متواضعًا للغاية. يقول إن ما يحصل عليه بالكاد يكفي إيجار الغرفة، وشراء حاجيات المقهى، وإرسال جزء بسيط لعائلته. لكنّه يتشبث بالأمل، ويحلم بأن يطوّر مشروعه الصغير، لتزداد قدرته على إعالة أسرته، وربما يعود إلى تعز ليستقر بجانب أولاده.
يضيف وهو ينظر إلى قارورة الغاز التي ارتفع سعرها:
"ما عد لنا طاقة… الأسعار كل يوم تزيد، وأنا ما معي راتب. بس نقول الحمد لله."
الحاج أحمد، رغم سنواته الستين، يعمل واقفًا لساعات طويلة. الشمس، والحرارة، ورائحة النار، وأدوات المقهى الثقيلة، كلها تركت آثارها على جسده. لكن عينيه ما تزالان تحملان قوة غريبة، إصرارًا يشبه إصرار الجبال التي جاء منها.
ويعترف بصراحة:"لو معي وظيفة حكومية، كان وضعي غير… كان قدرت أعلم عيالي أحسن، وأعالج نفسي دون ما أفكّر بكل ريال."
من خلال قصته، لا يرى المتابع مجرد رجل كبير يعمل في مقهى، بل يرى آلاف اليمنيين الذين أجبرتهم الظروف على البحث عن الرزق خارج محافظاتهم، حاملين هموم الأسرة على أكتافهم، بينما يعيشون وحيدين في مدن أخرى. قصته مرآة لوجع وطن كامل، ومرآة لقوة لا تنكسر رغم التعب.
اليوم، يتحدث أحمد بصوت مليء بالرجاء:
"أطالب الدولة تشوف وضعي… توظفني، ولو حتى وظيفة بسيطة. وأتمنى تدعمني في مشروعي هذا. مقهاي مصدر رزقي الوحيد."
هو لا يطلب مستحيلا، لا يطلب مالا جاهزًا، بل يطلب دعْمًا يضمن له البقاء واقفًا. وظيفة صغيرة تكفل له استقرارًا، أو دعم مالي بسيط ليطوّر المقهى، فيستطيع أن يقدّم لأسرته ما تستحق من حياة كريمة.
ورغم أنه لا يملك كثيرًا من القوة اليوم، لكنه يملك قلبًا كبيرًا، ويدين اعتادتا العمل الشريف. يقول أخيرًا وهو ينطفئ معه النهار:
"أريد أعيش بكرامة… هذا كل اللي أريده."
ويبقى أبو البنات الخمس والأولاد الثلاثة واقفًا خلف إبريقه، ينتظر زبونًا، ينتظر رزقًا، وينتظر دعمًا يعيد إليه ما أنهكه الزمن. فحكاية الحاج أحمد ليست مجرد قصة رجل ستيني يعمل في مقهى، بل قصة صمود… وكرامة… وأب لا يزال يقاتل من أجل أسرته حتى آخر رمق.