قال لي صديقٌ ذات يوم، ناصحًا بلطف: "يا مشتاق، إنك تُسهب كثيرًا في كِتاباتك حتى تبْدو الفِكْرة ضائعة وسط بحرٍ من الكَلِمات. لماذا لا تُجَرّب أن تخْتِصر ما تُود قُولهِ في عِشرين كَلمة، بدلًا من هذاَ السيلُ المُتدفقِ من العباراتِ؟ فبِذلكَ، تُسهّل على القَارئ متابعة أفكارك وفهم مقصدك."
تأملت كلماته لحظةٍ ثم أجبته: "لكن يا صديقي، ليس من السهلِ عليّ تَبني هذا الأسلوب المُختصر. كيف لي ذلك، وأنا قد قرأت أكثر من مئتي كِتاب في الفلسفة، وعلم المنطق؟ إنك تعرفُني جيدًا؛ لم أتِم دراستي الثانوية بعد، إذ غَادرتُ المدرسةُ مُبكرًا، ودخولي إلى عالم قِراءة الكُتب جاء منذَ عَشرِ سنوات تقريبًا. وبدلًا من البِدايات البسيطة، وجدتني أبدأ مع كتب وروايات فلسفية عميقة، كانت بمثابة البوابة الأولى لي نحو هذا العالم. واعترف لك الآن أنها بداية بدون دراية أو معرفة؛ حتى أصبحت الفلسفة هي الأساس الذي انطلقتُ منه، والمرجع الذي أعود إليه، بل وكانت نبعًا دائمًا يُغذي شغفي بالمعرفة."
ويا للعجب! لقد أدركتُ أن الفلسفة، بعمقها وتشعبها، تحمل في طياتُها شيئًا من الجنون؛ فإن رأيتموني أُكثر من الحديث وأغوص في التفاصيل، وذلك خلال كتاباتي، فلتلتمسوا لي العِذر. فهناك دافع خفي، كالتيار القوي، يَدفعني للكِتابة دون توقف، كأن الفلسفةُ أصبحت جزءًا مني، تجري في عروقي وتنفذ إلى عُمق ذاتي. أعتقد أن هذا التمازج قد حدث بِشكلٍ لا شُعوري على مر الوقت، حتى امتزجت الأفكار الفلسفية بشخصيتي، وشكّلت وعَْيي وكأنها التيار الذي يمنحُني الإلهام والراحة على حدٍ سواء.
صارت الفلسفة هي الترياق الذي ألجأ إليه كلما ازدادت أفكاري تعقيدًا، تهبني طمأنينة حين تتأرجح رؤاي، وتفتح لي مسارات جديدة للحلول والخيارات، بل تتخطى أحيانًا قدراتي المنطقية لتضع أمامي رؤى لم أكن لأتصورها. وكأنني حين أكتب، أتحرر من حدود عقلي وألامس جوهر روحي.
وها أنا أستمر في الكتابة، متأرجحًا بين الجنون والحكمة، بين الحشو والاختصار. فأحيانًا أجد نفسي أسير بين الكلمات بحثًا عن فكرة نقية، وأحيانًا أترك العنان لأفكاري لتحلق بلا قيود. في النهاية، ربما لا يكون الإطالة عيبًا بقدر ما هو تعبير عن روح متعطشة للمعرفة، تسعى دومًا لاستكشاف أعماق الأفكار وأسرارها. قد يكون حديثي طويلًا ومتشعبًا، لكنه امتداد لرغبة خفية في مشاركة ما في داخلي، وسبيلٌ لي لأترك بصمة، وإن كانت صغيرة، في عالم الكلمات الواسع.
فإذا قرأتم كلماتي يومًا، ورأيتموني أسترسل دون توقف، فاعلموا أن في كل حرف نبضًا، وفي كل جملة عمرًا بأكمله. هكذا أكون قد وجدت راحتي، وحققت سكينتي، تاركًا لحديثي الطويل أن يحملكم ولو للحظة إلى أعماق نفسي وفضاء أحلامي.