آخر تحديث :الخميس-07 أغسطس 2025-12:13م

حين يصبح النظر بديلاً عن الشراء

الأربعاء - 05 فبراير 2025 - الساعة 05:00 م
مشتاق العلوي

بقلم: مشتاق العلوي
- ارشيف الكاتب


بعد غيابٍ طال شهرًا وعشرين يومًا، عدنا إلى عاصمة حالمين (حبيل الريدة). وبينما أنا أتجول في سوقها الصغير، لاحظتُ شيئين دخيلين على مجتمعنا، لم نعهدهما من قبل بهذه القوة، ألا وهما: "اليأس" و"الإحباط" اللذان وصلا إلى العوام من غالبية أبناء المديرية.


والسبب الأول والأخير هو تردي الوضع الاقتصادي، وتفشي الغلاء الفاحش، وانقطاع الرواتب، إضافةً إلى ذلك، ارتفاع سعر الصرف الجنوني، الذي ساهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية.

نعم، لقد شاهدتُ ذلك بعيني على وجوه الأغلبية من العوام. فالناس معتادون الخروج في الصباح الباكر إلى هذا السوق الصغير لغرض التسوق، لكنني شاهدتُ الكثير منهم في الساعة الحادية عشرة راجعين إلى بيوتهم لا يحملون شيئًا بأيديهم. أعتقد أنهم يكتفون بالنظر إلى المأكولات.


إن الفقر المدقع الذي نتعايش معه في هذه المرحلة هو الأول من نوعه منذ بداية الحرب وقبلها. فالوضع الاقتصادي سيئٌ جدًا، وحالة العوام يُرثى لها. حتى التجار أنفسهم وجدْتُهم في تذمر، كأن الطير تأكل من رؤوسهم. حتى إنني دخلتُ عند أحدهم، وهو صديقي، فبادلتُه السلام لكنه لم يردّ، رغم مشاهدته لي، لقد كان تائه الفكر شارد الذهن، وبعد تلويحات مني وجدته قد فزع من مكانه، وكأنه استوعب الآن مجيئي. فقلتُ مخاطبًا إياه:

ردّ السلام واجب.

فقال: متى سلّمتَ عليَّ؟

قلت له: الآن، عند دخولي المحل.

فقال: والله ما سمعتُك، أعتذر منك.

ثم أردف قائلًا:

يا صديقي، بلادُنا تتجه إلى الهاوية. إنها لم تعد صالحة للعيش، فلا شيء فيها يستحق التعب

انظر إلى الخارج. (وأشار إلى المتسوقين) إنهم يركضون ذهابًا وإيابًا منذ الصباح، وأنا أراقب تحركاتهم، فلم أرَ أحدًا منهم يحمل في يديه شيئًا، فقط يتوقفون لحظات عند الأشياء التي تعجبهم، لكنهم لا يشترونها، كأنهم يكتفون بالنظر إليها بسبب الفقر المدقع الذي وصلوا إليه، وذلك أدى إلى ركود السلع في محلاتنا، مما يجعلنا نفكر في الخروج من هذه البلاد التعيسة.

فقلتُ له: هدّئ من روعك يا صديقي، ودَع الخلق للخالق، فكل دابةٍ في الأرض على الله رزقُها.

فقال: نعم، صدقتَ. والنِّعم بالله سبحانه وتعالى.


وهكذا، في زوايا سوقنا الصغير، لم تكن السلع وحدها راكدة، بل حتى الأرواح بدت وكأنها متوقفة عند عتبات الأمل الباهت. لم يكن الفقر مجرد نقصٍ في المال، بل جرحًا عميقًا في كرامة الإنسان، وانعكاسًا لوطنٍ أثقلته الحروب ونخره الفساد والإهمال.

ومع ذلك، يبقى هناك خيط رفيع لا ينقطع، اسمه "التوكل"، يتمسّك به البسطاء رغم كل شيء. فمهما بلغ اليأس أشدّه، تظلّ القلوب المعلقة بالله تعرف أن خلف هذا الركود، حياةٌ ستُبعث من جديد، وأن الأرض التي ضاقت يومًا، ستتّسع غدًا برزقٍ من حيث لا يحتسبون.

لعلّ ما نحتاجه ليس مجرد انفراجٍ اقتصادي، بل انفراجًا في النفوس، عسى أن تعود الحياة إلى هذا السوق، لا ببضائعه فقط، بل بقلوب الناس التي اعتادت أن تشتري الأمل قبل أي شيء آخر.