آخر تحديث :الأربعاء-30 يوليو 2025-11:22م

حضرموت وغياب محافظها..

الخميس - 17 يوليو 2025 - الساعة 01:36 م
طه بافضل

بقلم: طه بافضل
- ارشيف الكاتب


/طه بافضل


في متاهة اليمن الممزق، حيث تتشابك الخيوط وتتداخل المصالح، تبرز حضرموت ككيانٍ فريد، حاملةً إرث تاريخها العريق والعتيق، وعبء حاضرها المتقلب، هي الأرض التي تفيض بالثروات، من نفطٍ يغذي خزانةٍ شبه فارغة، إلى سواحلٍ تطل على طرق التجارة العالمية، وذهب لا يعلم الحضارم أين يذهب؟لكنها في جوهرها، تبدو كجسدٍ مثقلٍ بغيابٍ حاضر، وماض مُسلٍّ، وسلطةٍ تبدو في ترحالٍ دائم.


يتناهى إلى مسامعنا، ويتردد في أروقة السياسة والإعلام، اسم المحافظ مبخوت بن ماضي، هذا الاسم، وإن حمل صفة "المحافظ"، فإنه بات يرتبط في المخيلة الشعبية بمفهوم "الغيب", ليس غيابًا جسديًا محضًا، وإن كان كذلك في كثير من الأحيان، بل غيابٌ عن جوهر المسؤولية، عن الالتصاق بتراب الأرض، ومحنة الإنسان.


إن ظاهرة "المحافظ الغائب" ليست حكرًا على حضرموت وحدها في جغرافيا اليمن المثخنة بالجراح، لكنها تتجسد هناك على نحوٍ أكثر إيلامًا. ففي حضرموت، حيث الخدمات الأساسية تئن تحت وطأة الإهمال – من كهرباء تترنح بين قلة الإضاءة وكثرة الظلام، إلى مياهٍ شحيحة في أراضٍ معطاءة – يصبح غياب رأس السلطة المحلية بمثابة إعلانٍ صارخٍ عن الانفصال بين الحاكم والمحكوم.


بن ماضي، الذي أُسند إليه زمام هذه المحافظة الشاسعة والثرية، يجد نفسه في عين عاصفةٍ من المطالب الشعبية والسياسية. مطالب لا تتوقف عند حدود تحسين الخدمة، بل تتجاوزها إلى قضايا جوهرية تتعلق بالسيادة المحلية، ووجود القوات العسكرية غير المحلية، والنزاهة المالية التي يبدو أنها تتعرض لاختبارٍ قاسٍ في ظل تداول الحديث عن ملفات فساد كبيرة، من أنابيب نفط مكشوفة إلى مصافي لا تخضع لقانون.


حضرموت، بتاريخها الضارب في عمق الحضارات، وبموقعها الاستراتيجي، تُعَدّ مفتاحًا للتحولات اليمنية والإقليمية. هي ليست مجرد محافظة، بل هي ثقل إستراتيجية يُدرك أهميته كل من يتصارع على خريطة اليمن الجديدة. ولعل هذا الثقل ذاته هو ما يجعلها مسرحًا للتناقضات العميقة.


فبينما يُفترض أن تكون إيراداتها النفطية ورسوم موانئها دعامةً لرفاه أبنائها، يغرق سكانها في دوامة الفقر والعوز والظلام. هذا التناقض الصارخ لا يمكن فصله عن طبيعة السلطة القائمة، وعن مدى قدرتها – أو رغبتها – في إدارة هذه الموارد بشفافية ونزاهة. وحينما يُضاف إلى ذلك ملف المنطقة العسكرية الأولى، الذي يمثل شوكة في خاصرة المطالب الحضرمية بالحكم الذاتي، تتضح الصورة أكثر؛ أن غياب المحافظ عن واقعه الميداني، أو عجزه عن معالجة هذه الملفات بحسم وعزم، يجعل حضرموت أقرب إلى السفينة التائهة في بحرٍ هائج، بينما قبطانها يبدو بعيدًا عن دفتها.


قد يجادل البعض بأن غياب المحافظ ليس ترفًا، بل ضرورة تمليها تعقيدات المشهد اليمني، أو الحاجة إلى التنسيق مع العاصمة المؤقتة أو الرياض حيث مركز صناعة القرار. ولكن، هل يمكن أن تُدار شؤون أرضٍ بحجم حضرموت وتعقيداتها من خارجها بشكلٍ فعّال؟ وهل يُعقل أن تُفهم معاناة الناس وأوجاعهم من وراء الشاشات، أو عبر التقارير المنقّحة؟


إن هذا النمط من الإدارة، الذي يُعلي من شأن التواصل "عن بُعد" على حساب الالتصاق المباشر بالواقع، ينذر بتعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع. وإذا كانت السلطة تفقد شرعيتها شيئًا فشيئًا في عيون من تحكمهم، فإن أولى علامات ذلك تظهر في تراجع الثقة، وتصاعد المطالبات بالتغيير الجذري.


المطالب الشعبية والسياسية بتغيير المحافظ، ليست مجرد رد فعلٍ عابرٍ على وضع خدمي متردٍ، بل هي تعبير عن سعيٍ حضرميٍ عميق لإعادة تعريف العلاقة بين الأرض والسلطة، هي دعوة إلى أن يكون المحافظ "حاضرًا" بكل ما تعنيه الكلمة؛ حاضرًا في الميدان، حاضرًا في اتخاذ القرار، حاضرًا في مواجهة التحديات، وحاضرًا في قلوب من يُمثلهم.


فحضرموت لا تحتاج إلى محافظٍ غائب، بل إلى قائدٍ يجسّد روحها، ويعكس طموحاتها، ويستطيع أن ينتشلها من براثن الإهمال، والإفساد، لتعود كما كانت دائمًا: منارةً للعلم والثقافة، ومصدرًا للخير والرخاء، لا مجرد رقمٍ في معادلة صراعٍ أكبر. فهل ستستجيب أروقة القرار لهذه الصرخات، أم ستبقى حضرموت تنتظر مخلّصها ومن ينقذها، وصمتُها يثقل الأرض والإنسان؟