تمرّ المحافظات المحرّرة اليوم بلحظة غاية في الخطورة، أشبه بـ"ارهاصات حدث خطير يغير المشهد السياسي" .
ففي الوقت الذي يترنّح فيه الوضع السياسي داخل الشرعية بين التباين والمناكفات، تتسع دائرة الانفلات الأمني والتدهور المعيشي والاحتقان الشعبي، بينما تسجّل الميليشيا الحوثية نشاطاً غير مسبوق في تجنيد الخلايا، وتمويل الاضطرابات، واستغلال الانقسامات لصناعة مشهد يخدم أهدافها الاستراتيجية.
خلال الأسابيع الماضية، شهدت عدن وأبين وحضرموت وشبوة ولحج سلسلة من الأحداث الأمنية والسياسية المعقدة، لا يمكن فصلها عن بعضها، ولا عن السياق العام الذي يرسمه الحوثي بعناية.
وقائع ميدانية تفضح النوايا: فوضى تُدار بعقل تخريبي.
عدن (٢٠–٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥م): شهدت المدينة احتجاجات غاضبة على انقطاع الكهرباء وغياب الخدمات وتوقّف الرواتب لأكثر من ثلاثة أشهر. لكنّ خطورة المشهد لم تكن في التظاهر ذاته، بل في قمعها بالقوة وما ترتّب عليه من احتقانٍ شعبي حادّ فتح الباب أمام اختراقات استخباراتية واستغلالٍ من أطراف حوثية تبحث عن شرارة تُشعل المناطق المحررة من الداخل.
أبين (الأيام ذاتها): تفجيرات واغتيالات متزامنة استهدفت نقاطاً أمنية ومقرات حكومية، ترافقت مع حملات تضليل إعلامي وترويج لسيناريوهات متناقضة حول المنفذين. هذه الحوادث ـ بحسب مصادر أمنية ـ غطاء لعمليات تجنيدٍ سرّية ونقلٍ لعناصرٍ تابعة للحوثي إلى محافظات مجاورة.
حضرموت: إعلان تشكيل “قوات حماية حضرموت” وإطلاق حملات تجنيد جديدة تحت شعارات مناطقية، في وقتٍ تشهد فيه مناطق أخرى تجنيداً غير نظامي وتمويلاً مشبوهاً من جهات غير معلومة. هذه التشكيلات تُضاعف من خطر تفكّك السلطة المركزية وتمنح الحوثي مساحةً أوسع للمناورة عبر إذكاء الصراع الداخلي.
احداث تعز: شهدت محافظة تعز خلال الأسابيع الماضية سلسلة من الأحداث الأمنية أبرزها اغتيال افتهان المشهري ، ومحاولات مستميته لاحداث انفلات أمني ، رافق ذلك حملة إعلامية منظمة وموجهة نحو تصعيد الانفلات الامني، واحداث فوضى عارمة تسهل للحوثي احداث اختراق أمني خطير، مع مناوشات وقصف حوثي في عدة جبهات.
محافظة لحج منطقة الصبيحة: شهدت أحداث أمنية خطيرة واشتباكات مسلحة، وصراعات بين مليشيات مسلحة
ماذا يُحضّر الحوثي؟
لا يمكن النظر إلى هذا الزخم من الأحداث بمعزل عن التوقيت السياسي والعسكري الدقيق الذي يتحرّك فيه الحوثي اليوم. الجماعة تواجه عزلة دولية وضغوطاً اقتصادية خانقة، لكنها تدرك أنّ أفضل وسيلة للهروب من الحصار هي افتعال أزمة أكبر تغيّر قواعد اللعبة.
وهنا تتعدد السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: هجوم عسكري شامل لاستعادة زمام المبادرة
يظلّ هذا السيناريو قائماً في ذهن القيادة الحوثية، رغم صعوبته على الجماعة، خصوصاً مع ضعف الموقف العسكري للحكومة الشرعية وتنازع القرار داخل مناطقها.
قد يلجأ الحوثي إلى هجوم واسع النطاق يستهدف مناطق حدودية أو محاور رخوة في شبوة أو مأرب أو الضالع أو تعز، ليعيد رسم المشهد ويخلق واقعاً ميدانياً جديداً يمكنه من فرض شروطه في أي مفاوضات قادمة.
مثل هذا الهجوم سيُقدَّم دعائياً كـ“ردٍّ على تصعيد التحالف” أو “حركةٍ دفاعية”، بينما هو في الحقيقة مقامرة وجودية للهروب من مأزق الانغلاق الداخلي.
السيناريو الثاني: التفجير من الداخل عبر الخلايا والأدوات في المحافظات المحررة
وهو الأكثر احتمالاً من الناحية التكتيكية.
هنا يعمل الحوثي على نقل المعركة إلى عمق المحافظات المحررة دون أن يطلق رصاصة من خطوط الجبهات.
من خلال خلايا نائمة، وشبكات تجنيدٍ تُدار من صنعاء وتستهدف عدن وابين ولحج والضالع وحضرموت والمهرة وشبوة، يُعاد ترتيب خريطة الولاءات والمصالح.
الهدف: إضعاف الثقة بين المكونات الشرعية، تفجير الصراعات البينية، وتحويل كل محافظة إلى ساحة نزاعٍ داخلي تستهلك نفسها بنفسها.
الأحداث التي شهدتها أبين وعدن ولحج وتعز مؤخرًا نموذج مصغّر لهذه الاستراتيجية، حيث يُستخدم الانفلات الأمني كأداةٍ استراتيجية وليس كعرضٍ جانبي.
السيناريو الثالث: المزيج المركّب (ضربة محدودة + تفجير داخلي)
وهو الأخطر، والأكثر انسجاماً مع الأسلوب الإيراني في إدارة الحروب بالوكالة.
يقوم على تنفيذ ضربةٍ عسكريةٍ مفاجئة محدودة التأثير في محور جغرافي (ربما تعز او شبوة أو مأرب)، تتزامن مع انفجارات واحتجاجات واضطرابات أمنية في المحافظات المحرّرة، لخلق فوضى شاملة تربك الشرعية وتجعلها عاجزة عن الردّ.
في هذا السيناريو، يتحرك الحوثي على محورين: ميداني خارجي وسياسي داخلي، بحيث يقدّم نفسه إقليمياً كشريك أمر واقع، بينما تكون الشرعية غارقة في صراعاتها الداخلية.
أزمة الشرعية: بين العجز السياسي والانقسام العسكري
ما يزيد خطورة الموقف أنّ الحكومة الشرعية لم تُظهر حتى الآن أي مؤشرات تحرك جدّي في مواجهة هذه التهديدات.
فالانقسام داخل مجلس القيادة الرئاسي، وتباين المواقف بين القوى العسكرية والمناطقية، وشيطنة القوى السياسية، وغياب استراتيجية إعلامية وأمنية موحدة، جعل الشرعية تبدو وكأنها متفرّج على انهيارها البطيء.
وما الأحداث في أبين وعدن وحضرموت إلا إنذارات متلاحقة، إن لم تُقرأ بعين السياسي الخبير فستتحوّل قريباً إلى مشهد انهيارٍ كامل.
مؤشرات استخباراتية لا يمكن تجاهلها
نشاط غير مسبوق لخلايا سرية تعمل لصالح الحوثي داخل المحافظات المحررة.
عمليات نقل أموال وتمويل مشبوهة عبر وسطاء محليين وشركات صغيرة واجهاتٍ لتمويل أنشطة استخباراتية.
تزايد اختراقات الاتصالات الأمنية والعسكرية في مناطق الشرعية.
تزامن إعلامي محسوب بين قنوات ومواقع تابعة للحوثي وأخرى تُدار من مناطق محايدة لتضخيم الخلافات داخل المعسكر المناوئ لهم.
حملة موجهة داخل المحافظات المحررة، لشيطنة القوى السياسية المؤيدة للشرعية، وتعميق الانقسام الجهوي والمناطقي.
التوصيات الاستراتيجية لمواجهة السيناريوهات الثلاثة
توحيد القرار الأمني والعسكري فوراً
تشكيل قيادة عمليات مشتركة على مستوى المحافظات المحرّرة تحت إشراف مباشر من مجلس القيادة الرئاسي.
ضبط عمل التشكيلات العسكرية والمليشيات المحلية، وإخضاعها لوزارة الدفاع والداخلية.
تنشيط العمل الاستخباراتي والمراقبة الميدانية
بناء غرفة استخبارات مركزية في عدن تضم ممثلين عن كل الأجهزة الأمنية.
ملاحقة خلايا السرية، وكشف شبكات التمويل، وتجفيف منابع الدعم المالي والإعلامي.
تحرك سياسي ودبلوماسي عاجل
التواصل مع التحالف العربي والداعمين الإقليميين لضمان موقف موحد تجاه أي تحرك حوثي.
الضغط عبر القنوات الدولية لإدانة أي تحشيد عسكري أو خروقات أمنية، مع وضع الحوثي تحت رقابة دبلوماسية جديدة.
استراتيجية تهدئة داخلية وإدارة الغضب الشعبي
صرف الرواتب المتأخرة فوراً، وتحسين الخدمات الحيوية، وفتح قنوات تواصل شفافة مع المجتمع.
تحويل الاحتجاجات إلى طاقة ضغط بنّاءة من خلال لجان مجتمعية، بدلاً من تركها مادة للتوظيف السياسي.
تفعيل دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني لإسناد جهود مجلس القيادة الرئاسي والحكومة الشرعية
إصلاح الإعلام الرسمي وبناء خطاب وطني موحّد
استعادة ثقة الشارع عبر خطاب واقعي ومسؤول يواجه الشائعات، ويعيد الثقة بالمؤسسات الشرعية.
اللحظة الفاصلة
إنّ ما يجري اليوم في المحافظات المحرّرة ليس تكراراً لأحداثٍ عابرة، بل هو مخطط ناعم لإعادة صياغة المشهد السياسي والعسكري في اليمن.
كلّ اغتيالٍ، وكلّ تفجير، وكلّ تجنيدٍ غير مشروع، هو خيط في شبكةٍ واحدة يُديرها الحوثي بعقلٍ باردٍ ودهاءٍ إيرانيٍّ واضح.
وإذا لم تتحرّك الشرعية سريعاً لتوحيد قرارها واستعادة زمام المبادرة، فإنّ السيناريوهات الثلاثة قد تتداخل لتخلق واقعاً جديداً، لن تكون فيه الحكومة الشرعية فاعلاً، بل مفعولاً به.
إنها اللحظة التي تُقرّر فيها القوى الوطنية إمّا أن تتماسك لتُفشل اللعبة، أو تترك نفسها تُعاد صياغتها وفق إرادة العدو.
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الاربعاء ٢٢ اكتوبر ٢٠٢٥م